قبل خمسين عاما من نهار البارحة، توفي الشاعر بدر شاكر السياب، عن عمر لم يتجاوز السابعة والثلاثين. لم يكن شاعراً كبيراً كما هو اليوم. ففي عام 1964 كان الشعر العربي داخل حلبة معترك: التقليد أو التجديد، الحداثة بجذرها العربي أو بجذرها الغربي، حداثة مجلة "الآداب" أو حداثة مجلة "شعر"، وحداثة اليسار أو حداثة اليمين. ولم تكن الموهبة الفردية هي الشاغل. والسياب، الذي لا يصلح إلا لمعيار الموهبة الفردية وحدها، أُخضع بقبضة فولاذية لمعايير المعترك ذاك، فبدا بفعل الضعف والذعر شاعراً ملوناً. وهو أمر لا يصح في تلك المرحلة العقائدية التي لا تسمح إلا بلون واحد. القبضة الفولاذية التي لا تنتصر إلا للشاعر المناضل/ البطل، وجدته شاعراً بالغ الضعف، فهرسته بأصابعها مثل حشرة.

Ad

    اليوم صارت أرض المرحلة أكثرَ هشاشةً من أن تشكلَ قاعدةً للشاعر المناضل/ البطل/ الحداثي/ المابعد حداثي/ اليساري/ اليميني. داخل آرينا المعترك بقي هؤلاء حتى اليوم، ولكنهم شاخوا، وخلا مسرح المعترك من الجمهور. يحدقون في وجه بعض دون حماس، ثم ينسحبون إلى مشاغلهم الأرضية، أو إلى النسيان. وفي عمق هذه الهدأة المريبة كان السياب يتّضح مع الساعات والأيام، بهالة قديس. شاعر ملء الفم، حتى لكأن صفة شاعر لا تصح إلا على نموذجه: الشاعر الذي لا يصلح لسوق الشعر المكتظ بالبائعين. الشاعر الذي لا يصلح لشيء. فصار أبطال اليسار واليمين، وأبطال الحداثة وما بعدها يفتعلون مراسيم الانتساب له. حتى النساء اللواتي أنكرن قبحه، وضعفه وفقره، وهو يتطلع إليهن ظامئاً، صرن اليوم يتبارين في مزاعم العلاقة القلبية.

    كل عناصر طبيعة السياب، ومنها التي وجدها نقاده شائبة ورديئة، كانت سماداً رائعاً لثمار شعره: ضعفه، ردود أفعاله السريعة، سهولة مكسره، تقلبه، فيض عواطفه عن الحد، مشاعر الذنب الحارقة.. فكل شائبة، إذا ما وجدت حقاً، ليست وليدة كيان رديء، بل وليدة محيط رديء وبالغ القسوة. ولذلك يبدو لي أن خلو شعر السياب من عنصر الكراهية، الذي يسم الشعر العراقي بصورة ملفتة للنظر، من الجواهري إلى البياتي وسعدي يوسف حتى الأجيال المتأخرة، إنما هو وليد تلك العناصر، وهو معيار شاعريته الأكثر رهافة. كل ذلك الضعف إزاء الحياة، الخذلان إزاء الشر الانساني، الهرب من عالم الأحياء إلى عالم الموتى، ليس إلا معيار شاعرية بالغة النضج والنبل. ولم تهب الآلهة "كلكامش" سمة النبل هذه، إلا بعد أن أيقظته على عناصر ضعفه وفنائه الأكيد.  

    السياب، مقارنة بنازك وبشعراء جيله، جاء من الريف، وفي كيانه عناصر ضعف كامنة، لا يُعوّل عليها في شيء داخل مدينة نامية، وتحت مناخ سياسي ضاغط، ووسط حياة ثقافية مُعرّضة للحساب. كيان بالغ الهزال، بالغ الحساسية، بالغ الحسية، بالغ الضعف، ولا يتمتع بوسامة الشباب. وسط محيط عضلي، مباشر كحد الموسى، يحتقر الحاضر لأنه يهدف إلى المستقبل وحده، وحسناوات وسطه الثقافي قلة قليلة، متطلعة إلى وجاهة الطبقة الوسطى. هذه المفارقة كفيلة بصياغة وجود شاذ بمجمله.

    ولذلك لا تستطيع أن تفهم هذا الكيان حقاً من مواقفه، لأن مواقفه ردود أفعال، وليست أفعالاً. بل تستطيع أن تفهمه عبر شعره وحده. فشعره يفيض برقة طبعه، وبضعفه وسرعة تهيجه بصورة لافتة للنظر. وما من قوة من قوى الحياة المحيطة الضاغطة تعطي لكلمات الشعر على الورق هذه القيمة. حتى نقاد الشعر، حين يلتفتون إلى السياب، يجدون أنفسهم ينتسبون إلى هذه القوى التاريخية عن وعي، أو غير وعي. فهم يزنون قصيدته بميزان قوى التاريخ الفاعلة، لا بقوى معتركه الداخلي. ولذلك فإن هذه القوى بقدر ما أسهمت في سحق وقتل السياب، بقدر ما حفزت موهبته الشعرية الداخلية على التخلي عن قوى التاريخ (تاريخهم) الفاعل، لصالح الأسطورة التي خلقها من شعره، وفي شعره.