لا هي مبادرة ولا هناك جدول أعمالٍ، ويصر الروس على أن تكون دعوتهم مبهمة وغامضة ولا ترتكز على أيّ منطلقات واضحة، كمقررات جنيف الأولى على سبيل المثال، ولذلك فإن هذا يؤكد أن المقصود منها هو تفتيت المعارضة السورية المعتدلة الجادة واستبدالها بشراذم هامشية كلها من صنع أجهزة نظام بشار الأسد الاستخبارية الذي من الواضح أنه بدعم من موسكو يحاول أن يلعب ورقته الأخيرة.

Ad

لم يوجه الروس دعوة إلى "الائتلاف" السوري كقوة رئيسية كانت قد اعترفت بها أكثر من مئة وعشرين دولة من دول العالم، وهم، كدليل على أنهم يسعون لتمزيق المعارضة المعتدلة الجادة، وجهوا دعوات لأعضاء في هذا الائتلاف بصورة فردية، والمستغرب أنَّ جون كيري، الذي فشل فشلاً ذريعاً في كل قضايا الشرق الأوسط الملتهبة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، سارع إلى مباركة هذه الجهود الروسية التي لم تتضمن أي ملامح لأي حلول ممكنة معقولة.

وهكذا فإن هذه، كما هو واضح، ليست مجرد مناورة ومجرد لعبة كبيرة فقط، بل مؤامرة قذرة هدفها إعادة المأزق السوري إلى المربع الأول، وكأنَّ كل هذا الدمار وكل هذه المذابح التي شهدتها السنوات الأربع الماضية لم تكن، وكأنه لم تكن هناك كل هذه الجهود التي بُذِلتْ دولياً وعربياً، وكأنه أيضاً لا توجد مقررات جنيف الأولى ولا يوجد مشروع المرحلة الانتقالية الذي بدونه لم يكن هناك أي حلٍّ، وستكون النتائج تقسيم سورية إلى دويلات طائفية ستبقى تتذابح وتتقاتل إلى أبد الآبدين.

يجب أن يكون معروفاً أن نجاح هذه المحاولة الروسية الغامضة، وهي لن تنجح ولا يمكن أن تنجح، سيعني بقاء نظام بشار الأسد جاثماً على صدور السوريين، وهذا بدوره سيعني تمدد إيران في هذه المنطقة أكثر مما هي منتشرة ومتمددة، وبالتالي فإن الشرق الأوسط سيدخل في العصر الفارسي الذي قد يستمر لأجيال متعددة مقبلة، وعلى غرار ما كانت عليه المرحلة الصفوية المعروفة.

ثم إن ما يجب أن يكون معروفاً أن نجاح هذه المحاولة الروسية سيعني بالتأكيد هروب سنّة سورية من واقع مستجدٍّ مؤلم وصعب إلى خيار أصعب، وهو التوجه أكثر وأكثر نحو التنظيمات الإرهابية "داعش" و"النصرة" وغيرهما، والمعروف أن الاضطهاد الذي مورس ضد العرب السُّنة في العراق منذ عهد بول بريمر، سيئ الصيت والسمعة، وحتى نهايات عهد نوري المالكي لا أعاده الله … وربما إلى الآن، هو الذي أوجد حاضنة "ديموغرافية" لهذه التنظيمات التي إن بقيت مقاومتها تقتصر على هذه الأساليب البائسة فإنها ستتجذر أكثر وأكثر في هذه المنطقة.

لقد أخطأ الأميركيون، هذا إن لم يكونوا منخرطين في مؤامرة منذ البدايات رتبتها إسرائيل من خلال رجالها في الإدارة الأميركية، عندما لجأوا إلى محاصرة المعارضة السورية المعتدلة، وعندما صدقوا كذبة أن البديل لنظام بشار الأسد هو التطرف والعنف وهو "داعش" و"النصرة" وكل التنظيمات الإرهابية الأخرى، فهذا هو ما جعل قطاعاً هاماً من السُّنة يتجه نحو هذه التنظيمات، وهذا ما أدى إلى تردي أوضاع المعارضين السوريين المعتدلين، وضعف "الجيش السوري الحر"، ولذلك فالمؤكد أنه إذا أفلح الروس في لعبتهم هذه فإن الشرق الأوسط كله سيدخل مرحلة لم يمر بمثلها من قبل.