"وَرَدَ في سِفْر الأحوال أنّ الحزن سمة الكائن البشري، ومَنْ أحسَنَ تداولَه عَرَفَ كيف يُقيم صرحَ محبة". بهذه المقولة يختم إسماعيل فهد إسماعيل روايته "طيور التّاجي"، ويضع لها منفردةً عنوان: الفصل الأخير. وهي بحق تستحق أن تكون فصلاً قائماً بذاته.

Ad

ذلك أن المقولة تبدو كجمرة ملبّدة بالرماد، مشحونة بذلك الموقف النبيل المؤثّر لإنسان حزين حتى النخاع، ليس حزناً فردياً، وإنما حزن جماعي بحجم شعب، تتوزعه قلوب ماتزال مكلومة بفقدٍ غامض بلا يقين. وحين يهشّ الروائي تلك الطيور في وجه ذاكرتنا الجاحدة البليدة، ويوقظ بها حكاية ما ينوف على ستمئة أسير كويتي تم تغييبهم بليل، نستشعر ألم تلك الفجوة المهولة والسؤال المعلّق الفاغر كفم أبله، والذي لم نجد له جواباً حتى الآن!

 بيد أن الروائي وهو محاط بأرواح تلك الطيور التي لا تنفك تنقر ذاكرته، لم يكن بصدد إقامة مأتم للحزن المحض، وإنما – وكما ورد في المقولة أعلاه– أحسَنَ بحق "تداول" هذا الحزن النبيل وتمريره إلينا، مع الحرص على أن يكون "صرحاً)" يفضي إلى "محبة)". وكان أمامه والحال كذلك أن يتطهّر من مرارات الانحياز إلى جرحه، ويتكبّد الخروج نحو الحياد في منظوره الإنساني الأوسع.

 لذلك فالحكاية في "طيور التاجي" ليست حكاية مجموعة من الأسرى الكويتيين في معتقلات عراقية يُتَوقع أنهم قضوا نحبهم أو فُقِد أثرهم، وإنما أيضاً كانت للروائي تلك العين الثانية المحايدة التي حاولت أن ترصد في السجّانين ملامح إنسانية محتملة تمّ تغييبها بآلة العسف وطغيان نظام دكتاتوري غاشم. فجاءت كفتا الميزان في بناء الرواية لتحققا تلك النظرة الموضوعية ما أمكن ذلك.

كيف يمكن لمخيلة أن تنسج تلك التفاصيل اليومية لأربعة من الأسرى على مدى اثنتي عشرة سنة، وهي المدة المرصودة من قبل الكاتب، قبل أن يلقى الأربعة مصيرهم المؤلم رمياً بالرصاص ثم دفناً جماعياً في حفرة منسية تقع في لامكان اسمه: معسكر التاجي؟ هكذا يأخذنا الروائي لنشهد أيام الأسر الطويلة بتفاصيلها، معبّأة بحس الانتظار، معجونة بآمال مراوغة ومكابدات وقلة حيلة وأيام لا تأتي بجديد. وعلى الضفة الأخرى من المشهد تتراءى شخصيتا "أيمن" الضابط العراقي الموكل بعهدة الأسرى الأربعة ومعاونه العسكري "ريسان"، وهما يغالبان هذه الوضعية اللاإنسانية المجحفة بما يمكن أن يخفف وطأتها، وبما يمكن أن يصنع أضعف الجسور الممكنة بين أسرى وبين سجانين مرغمين على مهمة بهذه النوعية.

 ومن هنا تبدأ محاولة التعارف بين الطرفين، وتبدأ معها بعض التسهيلات المتقشفة، كالسماح بالتريض في الساحة الملحقة بالمكان، ثم بالتسلية بزراعتها، ثم بالسماح بالشاي، فأدوات الكتابة والرسم، فتسريب مجلة "العربي"، فتداول معلومات مسجلة على حاسوب، وأخيراً تزويدهم بجهاز راديو لسماع أخبار الوطن. يتمّ كل ذلك بتواطئ إنساني جميل مخالفاً بذلك أعراف الاعتقال وضوابطه، ومخاطراً باحتمال الانكشاف وما ينتج عنه من عقوبات صارمة في حق الضابط ومعاونه. وهذا ما كان.

 ومن خلال السرد المتأني ليوميات الأسرى الأربعة وعلاقتهم بالمكان وبضابطهم ومعاونه تأخذ دوائر العرض بالاتساع لتشمل شخصيات ومشاهد مساندة تعين على إضاءة مساحة العمل بكامله. وكان يتم ذلك بتقنية تقاطع الأزمنة والأمكنة، وبالتذكر والاسترجاع، وبصنع حكايات جانبية مساندة مثل المناورة حول حياة الضابط "أيمن" وعلاقته بأسرته و بـ"هيا"، وحول حياة كل أسير على حدة مع الحرص على تنوّع العزف على خلفيات متغايرة، ومثل إضافة شخصيات داعمة تتناثر هنا وهناك.

 بيد أن السمة الفنية الأكثر جدارة بالاحتفال تتمثل في توظيف الكاتب لشخصه الواقعي في مجريات الأحداث، كونه شقيق أحد الأسرى الأربعة في واقع الحياة وواقع القصّ. ثم لابد والحال كذلك أن يجتذب مسار القصّ مجموعة أخرى من الشخصيات الحقيقية بأسمائهم وشخوصهم الواقعية أيضاً، مثل د.غانم النجار وإبراهيم فرغلي وآدم يوسف، لتأخذ الأحداث في جانب منها هامشاً تسجيلياً يحيل القارئ إلى حياة ونبضٍ من لحم ودم.

 بقي أن نقف برهة عند تصميم الغلاف الذي يأخذك إلى العمق الأبعد من حيث لا تدري، عمق المكان السادر في عتمة غامضة ومراوغة، لا تحيلك إلى صباح ولا مساء، وإنما إلى زمن أبعد منهما، وإلى ذكرى متلكئة لا تريم. أما الطيور الأربعة البيضاء الحائمة في مركز النظر، فستبقى حائمةً تضيء العتمة وتراوغها وتجلوها.