كيف نخدم الفن الرديء؟

نشر في 28-12-2014 | 00:01
آخر تحديث 28-12-2014 | 00:01
 ياسر عبد العزيز من بين مئات الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية على مدى عمرها الطويل، فيلم بعنوان "ذئاب لا تأكل اللحم"، وهو عمل لم يُعرض أبداً في أي من دور السينما في مصر وكثير من الدول العربية، بسبب أنه انطوى على مشاهد عارية تماماً لإحدى النجمات.

أنتج هذا الفيلم في عام 1973، وقد تم تصويره بالكامل في الكويت، وبمشاركة نجوم كويتيين، لكنه كان ينطوي على قدر كبير من الجرأة في "مشاهد الفراش"، بشكل جعل من الصعوبة عرضه عرضاً عاماً، ومع ذلك، فقد بلغ عدد مشاهداته على موقع "يوتيوب" وحده أكثر من خمسة ملايين مشاهدة، وهو رقم يفوق مشاهدات أي عمل درامي آخر.

الأمر نفسه ينطبق على عمل درامي آخر عنوانه "براءة المسلمين". إنه الفيلم البائس الذي تم تصويره في الولايات المتحدة، وتم عرضه في عام 2012، ليُقابل باستهجان وغضب عارمين، وتندلع بسببه احتجاجات عنيفة في أكثر من بلد، كان من أكثرها شهرة تلك التظاهرات الغاضبة التي اجتاحت العاصمة الليبية طرابلس، ونجم عنها مقتل السفير الأميركي هناك.

سيمكن القول إن هذا العمل الدرامي البائس والفقير إنتاجياً لاقى اهتماماً كبيراً لا يستحقه، خصوصاً بعدما ارتبط بحادث إرهابي شهير، أصبح علامة من علامات العنف السياسي ضد السفراء والبعثات الدبلوماسية، وإضافة إلى ذلك، فإن كثيرين رغبوا في مشاهدة الفيلم أو التعرف إلى تفاصيله بعد الأحداث التي تسبب فيها، وبعد إقدام معظم الدول الإسلامية وغيرها على منع عرضه.

وإذا كان فيلم "ذئاب لا تأكل اللحم"، وغيره من الأفلام المشابهة، يتعلق بأحد "التابوهات" الثلاثة الشهيرة؛ وهو الجنس، فإن فيلم "براءة المسلمين" يتعلق بـ"تابوه" آخر، وهو "التصور الديني"، ولدينا اليوم فيلم جديد يتعلق بـ"التابوه" الثالث وهو السياسة.

إذ ينشغل المجتمع الفني العالمي في هذه الأثناء بفيلم بائس آخر عنوانه "المقابلة" The interview، وهو الفيلم الذي يحكي عن مؤامرة تدبرها الاستخبارات الأميركية لقتل الزعيم الكوري الشمالي كيم كونغ أون، عبر صحافيين أميركيين تمكنا من الحصول على موعد لإجراء مقابلة صحافية معه.

فما إن تم الإعلان عن إنتاج شركة "سوني بيكتشرز" Sony Pictures للفيلم، واستعدادها لعرضه في مئات دور العرض حول العالم، حتى اندلعت هجمات إلكترونية مبرمجة ضد الشركة مستهدفة بنيتها التقنية الاتصالية.

وبسبب هذه الهجمات التي ظهر أنها عالية المستوى ويقوم عليها محترفون مختصون، فقد منيت الشركة بخسائر كبيرة؛ منها اختراق بياناتها وعرضها بشكل سبب لها إحراجاً، وعرض بيانات الموظفين والمتعاملين معها، وتسريب عدد من سيناريوهات الأفلام التي ما زالت قيد الإنتاج.

تراجعت الشركة عن عرض الفيلم في محاولة للحد من الخسائر التي مُنيت بها، وما إن حدث ذلك، حتى توالت التصريحات الداعمة للفيلم، والمطالبة بعرضه، وسارعت دور العرض إلى شراء حقوقه، للقيام بعرضه، متحدية المخاوف المثارة.

ليس هذا فقط، لكن الرئيس الأميركي باراك أوباما نفسه عبر عن أسفه للقرار الذي اتخذته الشركة حيال الفيلم، مطالباً بضرورة عرضه، كما قام عدد من البرلمانيين والسياسيين بتوبيخ القائمين على الفيلم، باعتبار أنهم امتثلوا للتهديدات والهجمات، وخذلوا الجمهور، وانتهكوا حرية الرأي والتعبير.

لكن أبرز ما جرى في هذا السياق يتعلق بما اتفق عليه عدد من نقاد السينما الجادين في العالم، فقد انتقد هؤلاء "المستوى الفني الضعيف" للفيلم، لكنهم مع ذلك أصروا على حقه في أن يعرض مهما كانت التهديدات، وهو الأمر الذي ظهر واضحاً أيضاً في تعليقات العديد من أفراد الجمهور الذين أكدوا أنهم شاهدوا الفيلم من باب الانتصار لحرية التعبير، لكنهم يدركون أنه "ضعيف فنياً" مقارنة بأفلام أخرى كثيرة لم تحظ بذات النصيب من الشهرة والاهتمام.

سيكون استخلاص القواعد من القصص الثلاث السابقة سهلاً للغاية؛ فثمة ثلاثة "تابوهات" تجذب اهتمام الجمهور في كل زمان ومكان (الجنس، والسياسة، والدين)، ومن المؤكد أن عملية منع أي مصنف إبداعي، سواء كان مسموعاً، أو مرئياً، أو مكتوباً، باتت شبه مستحيلة في ظل البيئة الاتصالية الراهنة، وأخيراً فإن "كل ممنوع مرغوب"، وأكثر من ذلك فإن "الممنوع سيكون مرغوباً بصرف النظر عن مستواه الفني ومقدار جاذبيته".

سيكون أيضاً بمقدورنا إضافة قاعدة أخرى: "إذا أردت أن تحظى بأكبر قدر ممكن من الرواج لمصنف إبداعي غير جدير وغير منافس، فليس عليك سوى أن تمنعه، أو تشيع أنه محظور".

هل يعني ذلك أن نلغي فكرة المنع في المجال الإبداعي إلغاء باتاً؟

الإجابة نعم. لكن قبل أن نسترسل علينا أن نضع خطاً تحت كلمة "المجال الإبداعي" أولاً، لأن بعض ما قد ينتج على أنه إبداع قد لا يكون إبداعاً في الأساس.

وكيف نحل تلك المعضلة؟

ثمة شروط ثلاثة يمكن أن نصنع منها مقياساً يجنبنا مشكلة "الترويج للرداءة عبر قرارات المنع الإدارية والقضائية"؛ الشرط الأول يتعلق بأن يحظى المصنف الإبداعي بقبول واهتمام علنيين من قطاع مؤثر من الجمهور، والشرط الثاني يتصل بضرورة أن يفصح القائمون على إنتاج المصنف الإبداعي عن توصيفه وتصنيفه واشتراطات التعرض الجماهيري له (كأن يكون للكبار فقط مثلاً، أو أن يتم التحذير من كونه ينطوي على مشاهد مرعبة، وهكذا)، أما الشرط الثالث فيختص بضرورة أن ينطوي المصنف على جهد فني وإنتاجي وإبداعي خاص.

إن تلك العملية صعبة لأنها تخضع لسلطة تقييم تقديرية من جهة، ولأنها تفترض ضرورة أن يتم العرض أولاً قبل التقييم من جهة أخرى، لكنها مع ذلك تظل ضرورية وناجعة جداً، لأنها لا تترك أمر الإبداع في يد التصور القانوني أو الديني أو الثقافي أو السياسي، الذي يكون غالباً جامداً أو انتهازياً أو قاصراً أو منحازاً.

لا تروجوا للفن الرديء عبر منعه، ولا تقمعوا الإبداع.

* كاتب مصري

back to top