ما قل ودل: عقود الإذعان... من يحمي المستهلك من جشع الشركات؟

نشر في 08-03-2015
آخر تحديث 08-03-2015 | 00:01
 المستشار شفيق إمام في مقال الأحد الماضي تحت عنوان "دافوس والعولمة والفساد الحليف الاستراتيجي" تناولت الاستعمار الجديد تحت عباءة العولمة وتزاوج المال بالسلطة، قبل ثورتي 25 يناير و30 يونيو، ومنظومة الفساد التي لم أستبعد أن تكون أحد مصادر تمويل الإرهاب الذي يجري في مصر، والذي تسقط ضحاياه كل يوم رغم كل المحاولات التي تبذلها الشرطة والقوات المسلحة في حماية البلاد منه.

منظومة الفساد وخصخصة القطاع العام

وقد استطاعت أن تقنع النظام الجديد في البلاد بإصدار قانون يحصن العقود التي تبرمها الدولة من رقابة مجلس الدولة، وقعه الرئيس السابق عدلي منصور، لتختفي ظاهرة الفخراني، المهندس الجريء الذي استطاع أن يستصدر أحكاما من مجلس الدولة بإبطال كثير من العقود التي انحرفت فيها السلطة عن المصلحة العامة، إلى تحقيق مصالح أصحاب النفوذ في لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم، ومصالح قيادات الحزب الأخرى تحت عباءة الخصخصة، التي كان قد تصدى لها د. رفعت المحجوب، رحمة الله عليه، إبان رئاسته مجلس الشعب، وحال دون إصدار تشريعاتها، فاغتالته يد الإرهاب الملوثة بالدماء، وهو ما يؤيد ظني في عدم استبعاد أن تكون منظومة الفساد هي أحد مصادر تمويل الإرهاب في مصر، وإن استطاعت أن تبرئ نفسها من هذه الجريمة البشعة بدعوى أن وزير الداخلية هو الذي كان مقصوداً بهذه الرصاصات التي أردت رئيس مجلس الشعب قتيلا.

الفساد وسوء إدارة القطاع العام

ولكن منظومة الفساد في مصر لم تكتف بما حققته من مكاسب تفوق الخيال على حساب المال العام، من الثمن البخس الذي اشترت به مساحات شاسعة من أراضي الدولة، أو اشترت به البنوك والشركات التي تم تخصيصها، من خلال تقييم بخس لأصولها وتعظيم لخسائرها، وكانت الأيدي القذرة التي أدارت هذه الأصول، قبل التخصيص، قد استهدفت غرضا واحدا هو تهيئة المناخ العام لخصخصة هذه البنوك والشركات، من خلال تحقيق خسائر كبيرة تصم إدارة القطاع العام بالفشل وسوء الإدارة.

بل راحت هذه المنظومة تبحث عن دماء جديدة تشبع بها نهمها وعطشها إلى زيادة ثرواتها (فالبحر يحب الزيادة)، فلم تجد سوى المواطن الضعيف الذي يطلب خدمات هذه الشركات، ونصيبه من خيرات بلده وشواطئه الجميلة التي أقامت فيها بعض الشركات منتجعاتها السياحية.

جهاز حماية المستهلك

وبالرغم من وجود قانون لحماية المستهلك في مصر، تترأسه قامة كبيرة يتسع صدرها لكل شكوى يقدمها أي مواطن، عن قناعة بأن تحقيق العدل ليس قصراً على القضاء وحده، فالعدل أساس الملك وأساس الحكم، وحق الشكوى هو حق يقف جنبا إلى جنب مع حق التقاضي، وهما حقان لا يلغي أحدهما الآخر بل يكمله، لأنهما يكونان معا منظومة واحدة هي حق وحرية الدفاع التي هي أصل الحقوق والحريات جميعا؛ لأنها تدفع عنا جميعا العدوان على حقوقنا وحرياتنا، فإن هذه القامة الكبيرة، التي تمثلت بالسيد عاطف أمين يعقوب رئيس الجهاز، الذي يحرص بنفسه على تتبع التحقيقات التي يجريها الجهاز في كل شكوى، قد لا تستطيع وحدها التصدي لمنظومة الفساد ما لم تعضدها الجماهير بوعيها وإدراكها لحقوقها، وتعظيم دور هذا الجهاز بالإقلاع عن الموقف السلبي الذي يقفه كثير من المواطنين من حقوقهم المهدرة ومن العدوان عليها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.

 وللإعلام المرئي والمقروء والمسموع دور مهم في أن يقف إلى جانب هذا الجهاز يسانده ويعضده، من خلال طرح شكاوى المواطنين عليه، ليكون بذلك إحدى قنوات الاتصال بالجهاز، درءا لما تقع فيه الفضائيات من أخطاء، عندما تعرض شكاوى المواطنين البسطاء على شاشات الفضائيات، ويظهر بعض المسؤولين وهم يدافعون ويبررون أخطاءهم وسياساتهم، فيضيع حق المواطن الشاكي الذي لا يستطيع أن يجاري المسؤول في فصاحته وبلاغته وتنميق عباراته وألفاظه وسرد الأرقام والإحصاءات التي يتقنون عملها، لإجهاض أي شكوى، فليس دور الإعلام الإثارة وكسب الشهرة، والفوز بالسبق الإعلامي، أو تبرير أخطاء المسؤولين.

عدوان الشركات على الحقوق

ولكن هل يستطيع جهاز حماية المستهلك أن يتصدى للطرق العديدة التي تتبعها الشركات مع عملائها، والتي تنطوي على عدوان على حقوق أساسية للمستهلك، حقه في الحصول على الخدمة، والمبالغ المغالى فيها التي يؤديها المستهلك مقابل الخدمة، والتي تتفنن الشركات التي تقدمها في إخراجها وتصنيفها وتنويعها، وفي الإضافات التي تبتدعها، بما يذكرنا بالفنان الراحل العظيم نجيب الريحاني في فيلمه "أبو حلموس"، وهو يراجع حسابات دائرة الباشا، عندما سخر من باشكاتب الدائرة الذي دوّن في الحسابات ثمناً مغالى فيه للخروف الذي اشترته الدائرة، فنصحه حتى لا ينفضح بأن يقسم المبلغ على الخروف ومستلزماته من أكل الخروف وحبل وجردل وخلافه... وهو ما أضحكنا جميعاً.

 لكن هذه الشركات تصل في عقود الإذعان التي يوقعها المستهلك والإقرارات التي يلزم بتوقيعها، والتي يرضخ فيها لطرف قوي يملك كل وسائل الترهيب والترغيب، وكل الأسلحة، من مال ونفوذ وسلطة، وجيش جرار من شركات الأمن والمحامين، تصل إلى إهدار كل الحقوق التي كفلها الدستور للمواطن من حرية شخصية وحق التملك والحقوق المتفرعة عنه، الأمر الذي لا يستطيع معه المستهلك الطرف الضعيف، الذي وقع في حبائل هذه الشركات إلا التوقيع، وفي تفصيل ذلك نذكر ما يلي:

حرية التعاقد

وهي إحدى الحريات الطبيعية، التي يحوزها الأفراد والتي تتصل اتصالا وثيقا بحق الملكية، وبوجه خاص في مجال كسبها بالعقد، وهي فرع من الحرية الشخصية التي كفلها الدستور، والتي تشمل فيما تشمله الحق في استثمار قدرات الفرد واستعمالها بكل الطرق القانونية، فلم يعد جائزا في ضوء أحكام الدستور، الذي كفل الحرية الشخصية وصان الملكية الخاصة فأصبحت حرية التعاقد أبرز سماتهما، أن تهدر هذه الحرية، التي أصبحت طبقا لهذا المفهوم جزءاً لا يتجزأ من النظام العام.

 ولذلك كان الأصل في العقود هو تكافؤ مصالح أطرافها، وعدم فرض قيود على حرية وإرادة اختيار أطرافها في استخدام حقوقهم التي تخولها لهم طبيعة هذه العقود، أو فرض قيود على حرية تدفق الأموال دون مقتضى من مصلحة عامة أو مقتضيات النظام العام والآداب العامة، مثل ما يرد في عقود الملكية من التزام المالك الذي يتصرف في وحدته بسداد 10 في المئة من ثمن الوحدة إلى الشركة، وفي كل مرة تتداول فيها الوحدة، وهو إثراء بلا سبب مشروع، يحظره القانون المدني على هذه الشركات، فضلا عن أنه يعوق تداول الأموال.

صون حق الملكية

وقد صان الدستور حق الملكية الخاصة، وحال دون العدوان عليها من قبل أي سلطة، ولو كانت السلطة التشريعية، لا يجوز لها أن تقر قانونا يمس الحماية التي كفلها الدستور لهذه الأموال، وهي حماية تمتد إلى كل حق ذي قيمة، سواء كان حقا شخصيا أو عينيا وهو ما قضت به المحكمة الدستورية العليا في مصر في حكمها الصادر بجلسة 12/2/1994 في القضية رقم 23 لسنة 14 ق.

وإذا كان الدستور يحظر على السلطة التشريعية ذاتها فرض أي قيود على حق الملكية وعلى الحقوق المتفرعة عنه من حق التصرف وحق الاستعمال وحق الاستغلال إلا لدواعي المصلحة العليا للمجتمع، فأولى بهذه الشركات أن تعصم نفسها من ارتياد هذه الحقوق والعدوان عليها، وقد ذهبت إحدى الشركات إلى إلزام ملاك الوحدات بعدم استخدام الوحدات التي يملكونها إلا للمالك شخصياً وأقاربه حتى الدرجة الثالثة، وحظرت على المالك تأجير وحدته، لأنها تحتكر وحدها حق الأجير وتتقاضى هي مقابل تأجير الوحدة، إذا قام المالك بتأجير وحدته للغير وفقاً لأسعار السوق، ولم يبق لمالك الوحدة إلا اللقب وحده.

وللحديث بقية حول تفانين وألاعيب إحدى الشركات التي تفوقت على أطروحة الفنان نجيب الريحاني في فيلمه "أبو حلموس".

back to top