لا شك أن دعم الغرب الشفهي لوحدة الأراضي الأوكرانية يُعتبر استثنائياً، فلا يمر يوم من دون أن يصدر بيان صحافي قوي اللهجة من واشطن، أو لندن، أو برلين يدافع عن حق أوكرانيا باتباع السياسة الخارجية التي تراها مناسبة، ويهاجم تدخل روسيا غير الشرعي وغير المبرر، حتى السياسيون الذين لا يشتهرون عادةً بالخطابات القوية اللهجة، مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، انضموا إلى هذه الجوقة.
تكمن المشكلة في أن الكلام، حتى لو كان صادراً عن أناس نافذين جداً لهم علاقات بأهم الشخصيات في العالم، يبقى بخس الثمن، فلا تدفع الكلمات كلفة الغاز الطبيعي، ولا تحقق أي خطوة نحو استبدال الطلبات من الشركات الروسية التي ما عادت أوكرانيا تريد تلبيتها، وهذا مبرر بالتأكيد.بصريح العبارة، لا تحتاج أوكرانيا إلى المزيد من الكلمات، بل تحتاج إلى المال الكثير وفي المستقبل القريب جداً،ومن المؤسف أن أعمال الغرب لا تتلاءم مع موقفه العلني، وكما أشارت صحيفة "واشنطن بوست" في مقال نشرته أخيراً، تقترب أوكرانيا بسرعة من حافة الانهيار الاقتصادي الكامل.لا تهدف مساعدة صندوق النقد الدولي بقيمة سبعة عشر مليار دولار، التي أُعلن عنها في شهر مايو ونودي بها حينذاك بأنها "الحل" لسقوط أوكرانيا الاقتصادي المتسارع، "إلى التعويض عن تأثيرات أشهر من القتال بين الجيش الأوكراني والانفصاليين المدعومين من روسيا".هذا صحيح: حُدد الجزء الأكبر من "المساعدة الدولية" التي تلقتها أوكرانيا حتى اليوم (علماً أنها ليست "مساعدة" بقدر ما هي قرض يجب تسديده) بناء على الافتراض أن القتال في شرق أوكرانيا سينتهي قريباً.لم أطلع على أي تقديرات دقيقة لكلفة الحرب في دونيتسك ولوهانسك، فنظراً إلى القصف المتواصل والعنف المحدود، فمن الصعب جداً القيام بتقديرات مماثلة، وستمر على الأرجح أشهر أو حتى سنوات قبل أن نعرف بالتحديد الكلفة الحقيقية.ولكن لا داعي أن نكون من حملة الشهادات العليا في الاقتصاد لنرى أن الكلفة باهظة بالتأكيد، فمع تواصل القتال، تعاني معظم شركات المنطقة الصناعية الكبرى حالة جمود، في حين أن شركات أخرى دُمرت بالكامل، أما من ناحية وضع الحكومة المالي فيبدو الوضع أكثر سوءاً بعد: فقد بات كثيرون من دافعي الضرائب الأبرز في أوكرانيا خارج سيطرة حكومتها المركزية الفعلية.تفرض الحرب على أوكرانيا نوعين مختلفين من الكلفة الاقتصادية: كلفة المباشرة لإصلاح الأضرار والبنية التحتية المدمرة وكلفة تباطؤ النمو الطويلة الأمد، وكما أشرنا سابقاً، تبدو الكلفة المباشرة للطرقات وسكك الحديد والمطارات المدمرة كبيرة، وتقارب على الأرجح مليارات الدولارات.الأسوأ من ذلك ألا أحد يعلم من أين سيأتي هذا المال، فلا تملك أوكرانيا هذا النوع من الموارد في الوقت الراهن، وخصوصاً أن أوضاع حكومتها المالية باتت على شفير الهاوية، لا شك أن الغرب يستطيع بسهولة تأمين هذا المال إن أراد ذلك حقاً، ولكن إن كان في نية الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة القيام بذلك، فيبدو أنهما متكتمان على هذا الخبر على غير عادتهما.لكن الكلفة الاقتصادية الكبرى ستكون غير مباشرة وستتخذ على الأرجح شكل تباطؤ النمو الاقتصادي المتواصل. لم تكن أوكرانيا مقصداً لا يُضاهى لاستثمارات القطاع الخاص قبل الأزمة، إلا أن ضعف هذه المنطقة البالغ أمام الضغوط الروسية تجلى بوضوح خلال الأحداث الأخيرة، نتيجة لذلك سيكون من شبه المستحيل حض مستثمري القطاع الخاص على إنفاق مالهم في هذه المنطقة.بات واضحاً اليوم أن أي مصنع أو أصول مادية في دونيتسك أو لوهانسك صار عرضة لهيمنة مجموعة من رجال ملثمين ومسلحين بالبنادق الرشاشة، ونتيجة لذلك لا يقدم على استثمار المال في هذه المنطقة إلا شخص يعشق المخاطرة إلى حد الانتحار.تبدو عملية هرب رؤوس الأموال وإنهاء الاستثمارات الواسعة النطاق شبه مؤكدة، وما لم يتوضح وضع كامل منطقة دونباس السياسي والقانوني، تواجه خطر الانحدار نحو ركود وتخلف دائمين. صحيح أن من الصعب تحديد كلفة أمر مماثل بالنسبة إلى أوكرانيا في الموازنات، إلا أنها ستكون ضخمة بالتأكيد.من الممكن تصحيح الوضع المأساوي الذي صورته أعلاه، لكن ذلك يتطلب التزاماً مالياً من الغرب يكون أكبر بكثير من كل ما عُرض حتى اليوم، فصحيح أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يمران راهناً بحالة من التقشف والضوابط المالية، غير أنهما يستطيعان تأمين المبالغ المالية الضرورية لمساعدة أوكرانيا على النهوض مجدداً، إن اعتبرا ذلك ضرورة حقيقية.تُعتبر التركيبة الحالية من الالتزامات الكلامية الكبيرة والالتزامات المالية غير المجدية الأسوأ في كلا العالمين، ولا شك أن الخطاب الحازم يبدو مناسباً للضغط على الروس وكبح لجامهم، لكنه لا يحقق أي خطوة في معالجة الأزمة الاقتصادية الفعلية التي تزداد سوءاً بسرعة في أوكرانيا.لا شك أن المزاج العام الموالي راهناً لأوكرانيا قد يتبدل بسرعة، إن لم تدرك النخبة السياسية في كييف أن الغرب غير مستعد لاتخاذ أي خطوات بغية دعم خطابه الجريء، فهذا ما حدث بالتحديد في روسيا في تسعينيات القرن الماضي: تأكيدات خطابية مستمرة من القادة الغربيين في "مسيرة الإصلاح" مع غياب شبه كامل للموارد، وقد شكل الكلام الكبير والأعمال المحدودة سياسة خاطئة آنذاك وهما كذلك اليوم.مارك أدومانيس - Mark Adomanis
مقالات
كلام الغرب الكبير لن يساعد أوكرانيا
23-10-2014