بريطانيا وفقدان النفوذ

نشر في 17-03-2015
آخر تحديث 17-03-2015 | 00:01
تعلمت من تجربتي أن بريطانيا تكون في أفضل حالاتها عندما تعمل على جمع الناس معا، وتحديد برنامج العمل، والترويج لقيمها، وتأييد التغيير، وفي تلك اللحظة فقط تستطيع توجيه ماضيها الذي لا ينسى، في حين تقوم بتقبل مستقبلها الذي لا يمكن تجنبه.
 بروجيكت سنديكيت إن أوروبا مرة أخرى مقسمة بين الشرق والغرب، لكن في هذه المرة فإن خط التماس يمر عبر الاتحاد الأوروبي، فالأعضاء الشرقيون- وخصوصا بولندا وجمهوريات البلطيق- يتمسكون بسرعة بالاتحاد الأوروبي في وجه العدوان الروسي، وعلى طرف النقيض الجغرافي والسياسي تأتي المملكة المتحدة التي تهدد بالتخلي عن أوروبا للأبد، فالقرارات التي تتخذ اليوم بالنسبة إلى الحدود الشرقية والغربية لأوروبا من المرجح أن تشكل توازن قوى جديدا.  ليس من الصعب تخيل أوروبا بعد الانسحاب البريطاني: محور فرنسي ألماني مسيطر بالإضافة إلى تمكين روسي وتجاهل أميركي لبريطانيا الضعيفة وأسكتلندا مؤيدة للاتحاد الأوروبي تهدد مجددا بترك المملكة المتحدة، وإنكلترا في حالة انغلاق على الذات، في حين يقنع المتشككون في أوروبا أنفسهم أن بريطانيا ستكون دائما أقوى عندما تكون لوحدها.

لو نظرنا إلى تأثيرات المتشككين بأوروبا في المملكة المتحدة حتى الآن فإننا لن نكون بحاجة لبلورة سحرية لتوقع تأثير الانسحاب من الاتحاد الأوروبي على بريطانيا، وكما قال رئيس المفوضية الأوروبية السابق جوسيه مانويل باروسو في ديسمبر "لم أر طيلة السنوات التي قضيتها في المجلس الأوروبي بلدا كبيرا معزولا مثل بريطانيا".

فالمملكة المتحدة الآن هي لاعب هامشي في تقرير استراتيجية النمو الأوروبي، حيث أصبح لها دور هامشي في المناقشات التجارية التي كانت تقودها في السابق، وبالرغم من كونها من كبار المقرضين فإنها غير ذات علاقة تقريبا فيما يتعلق بمستقبل اليونان، والآن وبالرغم من كون بريطانيا من الدول الموقعة على مذكرة بودابست سنة 1994 والتي تضمن استقلال أوكرانيا فإن فرنسا وألمانيا فقط تحضران أي مفاوضات جدية.

 إن الوزراء البريطانيين يرغبون في الحصول على كل شيء، فهم يقولون "تجب مواجهة روسيا حتى من قبل وحدة أوروبية أكبر" ولكن على فكرة يمكن أن نخرج من الاتحاد الأوروبي.

دين أتشيسون وزير الخارجيه الأميركي والذي كان مهندس الناتو وخطة مارشال، قال كلمته الشهيرة، وهي أن بريطانيا أضاعت إمبرطورية في القرن العشرين، ولم تجد لها دورا عالميا جديدا، وفي القرن الحادي والعشرين يمكن لبريطانيا أن تخسر أوروبا وتجد نفسها مرة أخرى بدون دور في هذا العالم.

إن ثمن الخروج سيكون كبيراً، حيث يعرض للخطر ثلاثة ملايين وظيفة و25 ألف شركة، وصادرات سنوية بقيمة 200 مليار جنيه إسترليني (301،3 مليار دولار أميركي) و450 مليار جنيه إسترليني من الاستثمارات الداخلية، كما أن الدور الفريد للندن، التي تجمع مجموعة كاملة من الخدمات المالية، والتي تخدم القارة– إن المنطقة التجارية في لندن تضم 250 بنكا دوليا و160 ألف موظف و80% من حسابات صناديق التحوط الأوروبية و78% من تجارة الصرف الأجنبي فيها و74% من المشتقات المالية لأوروبا و57% من الأسهم فيها– سوف يكون معرضا للخطر كذلك. ليس هناك الكثير من الأدلة التي تدعم حجة المعادين لأوروبا بأن أحكام وأنظمة الاتحاد الأوروبي تعوق التجارة البريطانية خارج أوروبا، وعلى العكس من ذلك فإن الكثير من الفرص التجارية والاستثمارية الخاصة بالاتحاد الأوروبي ستضيع لو خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما أن ادعاء المعادين لأوروبا، بأن بريطانيا غير الأوروبية يمكن بسهولة أن تحتفظ بفوائد الاتحاد الأوروبي في حين تتخلى عن أعبائه هو وبكل بساطة، ادعاء لا يتمتع بالمصداقية.

انظروا إلى الأمثلة المفضلة للمتشككين بأوروبا، النرويج وسويسرا، إذ يتوجب على النرويجيين أن يدفعوا 2 مليار يورو (2.1 مليار دولار أميركي) سنويا من أجل حرية الوصول للأسواق الأوروبية، وسويسرا مثل النرويج تكون في المقاعد الخلفية للمفوضية الأوروبية عندما يتم اتخاذ القرارات المتعلقة بالتجارة والاستثمار.

وإن اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية، أضخم اقتصاد في العالم، يحتاج لاتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية والاقتصادات الصاعدة في جنوب شرق آسيا تحتاج للآسيان وبريطانيا، كذلك– والتي كانت تمثل في ذروتها نحو 20% من النشاطات الاقتصادية العالمية لكنها لن تمثل قريبا أكثر من 2.5%- هي أقوى بكثير كجزء من أوروبا. إن عضوية الاتحاد الأوروبي تقوي تنافسية المملكة المتحدة عن طريق تمكينها من التفاوض على أفضل الصفقات المتعلقة بالتجارة والأنظمة الضريبية وبراءات الاختراع وغسل الأموال والفساد والأمن مع الصين والهند وبقية العالم. لكن الحجج الاقتصادية لوحدها لن تكون كافية لإقناع بريطانيا التي قال عنها الصحافي والكاتب السياسي الراحل هيوغو يونغ: محتارة بين الماضي الذي لا تستطيع نسيانه، والمستقبل الذي لا تستطيع تجنبه، وطبقا لهذه النظرة فإن التناقض البريطاني تجاه أوروبا يمكن أن يعكس استمرار عدم القدرة على نسيان أيام عظمة الإمبرطورية. مهما يكن من أمر فإن من الواضح أن انعدام الأمان الاقتصادي– بفضل الرتم السريع للاقتصاد العالمي والتأثير التدميري لذلك الاقتصاد في بعض الأحيان- يحرك حنين الناس للسيادة البريطانية، وإن ملايين البريطانيين يحنون إلى شخص ما أو شيء ما يحميهم مما يبدو أنها قوى أجنبية تهدد بسرقة أرزاقهم.

لقد وجد هذا الخوف صوتا له في حزب الاستقلال البريطاني المعادي لأوروبا، والذي صعد نجمه في استطلاعات الرأي، حيث تمكن هذا الحزب من تحويل الاستياء الاقتصادي إلى حرب ثقافات يكون فيها الأجانب والمهاجرون وأوروبا بشكل عام بمثابة الأعداء، وبالنسبة إلى قادة حزب الاستقلال البريطاني ومناصريه فإن بريطانيا اليوم هي ليست بريطانيا التي كانوا يعرفونها بالسابق. وبالرغم من أن الإحصاءات الاقتصادية يجب أن تكون جزءا من الحجج لمصلحة أوروبا فإن مثل تلك البيانات لن تقنع أولئك الذين يخافون من أن بريطانيا قد أصبحت بلدا أجنبيا، كما أنها لن تكون كافية من أجل استذكار الفوائد التاريخية للارتباط والدور المميز لبريطانيا على مر القرون في التحقق من أنه لا يوجد بلد يمكن أن يتفرد بالسيطرة على أوروبا. وما نريد قوله هو أن بريطانيا تكون في أفضل أوضاعها عندما ترى نفسها كقائدة، وكما قادت بريطانيا أوروبا في الماضي لمحاربة الفاشية ودعم الطموحات الديمقراطية وصياغة رد القارة على الركود العالمي في 2008 فإنها يجب أن تكون داخل أوروبا لتقود أوروبا من الصفوف الأمامية. وإن بريطانيا التي كانت على الدوام تناصر الحرية والتسامح والمسؤولية الاجتماعية يجب أن تكون مستعدة مرة أخرى لقيادة حركة تقدمية، وأن تقود الجهود لمحاربة التغير المناخي ومقاومة الحمائية وتشجيع النمو المستدام. يجب أن تتبوأ دورا قياديا في تعبئة أوروبا من أجل جعل الاقتصاد العالمي يخدم الناس ويحميهم من الظلم والغبن، فالعولمة تحتاج إلى وجه بشري، ووجه بريطانيا الحديثة يمكن أن يكون ذلك الوجه.

البعض يقول إن أفضل طريقة لتأمين الإصلاح الأوروبي هي التهديد بترك أوروبا، ولقد تعلمت من تجربتي أن بريطانيا تكون في أفضل حالاتها عندما تعمل على جمع الناس معا، وتحديد برنامج العمل، والترويج لقيمها، وتأييد التغيير، وفي تلك اللحظة فقط تستطيع بريطانيا توجيه ماضيها الذي لا ينسى، في حين تقوم بتقبل مستقبلها الذي لا يمكن تجنبه.

* غوردون براون ، رئيس وزراء سابق ووزير سابق للخزانة في المملكة المتحدة، وهو يعمل حاليا كمبعوث خاص للأمم المتحدة للتعليم العالمي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top