{وجودي بدأ بكذبة، وفيها أقيم اليوم}، هذه العبارة التي ظل يرددها ريمون جبارة طوال حياته يبدو أنه سئم منها واختار الانتقال إلى ما هو حق وحقيقة، بعيداً عن عالم جعله ينزف ألماً منذ تفتحت عيناه على الحياة وطيلة مشواره على هذه الأرض ومسيرته الفنية التي أراد من خلالها أن يرسم عالماً على قدر أحلامه وطموحاته وإنساناً كاملا وجميلا، فخذلته الحياة باكراً وباكراً جداً وتحكّم به المرض فشلّ يده ورجله، إلا أنه لم ينل من قلبه وعزيمته فظل ينبض حباً للمحيطين به ولطلابه وزملائه، وعشقاً بخشبة شهدت ريمون الممثل والكاتب والمخرج، وشهدت آخر مسرحياته {إن وأخواتها} 2012، وبقي بريقها يتفاعل في قلبه حتى الرمق الأخير.
مسيرة شاقةولد ريمون جبارة في قرنة شهوان في الأول من إبريل 1935، وتلقى علومه في مدرسة الحكمة في بيروت. لم ينَل الشاب الشهادة الثانوية، فقد مرض والده، ووقعت القرعة عليه ليلتحق بأقرباء والدته في البرازيل عام 1954. لم يتحمل البعد ولطالما روى كيف سافر وودعه والده {على البابور} وعاد من أجله بسبب دمعته التي رآها في لحظة وداعه.عشق المسرح منذ الطفولة ودأب على التمثيل في مسرحيات يخرجها المختار في الضيعة، ويكتبها له أحد أبنائها، وكانت {سقوط غرناطة} المسرحية الأولى التي أدّى فيها مشهداً وهو لا يزال طفلا. إلا أن طموحه بامتهان العمل المسرحي بقي طي الكتمان، حسب ما صرّح مرة، خشية عدم تقبل محيطه له إلى أن تحقق هذا الحلم مصادفةً في إطار نشاطات {لجنة مهرجانات بعلبك الدولية}. كان صديقه منير أبو دبس يدير {معهد التمثيل الحديث} الذي أصبح في ما بعد {مدرسة بيروت للمسرح الحديث}، فانضم إليه، من ثم انتقل إلى العمل مع أنطوان ملتقى لدى تأسيسه {حلقة المسرح اللبناني}، وأدّى أدواراً رئيسة تحت إدارة ملتقى وبيرج فازيليان، من بينها دور راسكولنيكوف في {الجريمة والعقاب} لدوستويفسكي (1963) إخراج أنطوان ملتقى، وهو الأحب إلى قلبه. وقد صرح في ما بعد بأن المخرج لا يكون بارعاً إذا لم يكن ممثلا .من التمثيل انتقل إلى كتابة النصوص وإخراجها، واقتباس مسرحيات عالمية بأسلوبه، وفي عام 1970 أنجز باكورته «لتمُت ديسدمونة»، تلاها إنتاج غزير من المسرحيات: «زرادشت صار كلباً» (1977)، «دكر النحل» (1982)، «صانع الأحلام» (1985) التي نالت جوائز في مهرجانات عربية وحظيت بتقدير النقاد، «محاكمة يسوع» و{قندلفت يصعد الى السماء»، «من قطف زهرة الخريف؟» (١٩٩٢)، {بيكنيك ع خطوط التماس» (1997)، وغيرها...كذلك أخرج مسرحيات للرحابنة وأنطوان غندور من بينها: «المؤامرة مستمرة» للأخوين رحباني (1980)، «صيف 840» لمنصور الرحباني (1988)، {يوسف بك كرم} و{طانيوس شاهين} و{ نقدم لكم وطن} كتابة انطوان غندور، كتب مسرحية {شربل} (1977)، قدّم فيها شربل إنساناً لا قديساً وصانع عجائب.نعي وتغريداتنعى وزير الثقافة المحامي ريمون عريجي الفنان اللبناني الكبير ريمون جبارة في بيان جاء فيه: {سافر ريمون جبارة. بغيابه يفقد المسرح اللبناني والعربي، قامة مضيئة، أهدت الخشبة اللبنانية تجربة رائدة، شاهدها جمهور لبنان، متميزة بطابعها الطليعي وطروحاتها، منذ مرحلة الستينيات الذهبية وحتى الأمس القريب ...رحل الكاتب، الممثل، المخرج، مقدم البرامج الاذاعية، الرئيس الأسبق لمجلس ادارة تلفزيون لبنان... ريمون جبارة، لبنان الثقافة مدين لك بلمعة فنية نادرة، اغنيت حياتنا الفنية، وطبعت المسرح اللبناني}.ورثى وزير الإعلام رمزي جريج المخرج ريمون جبارة، معتبراً، في كلمة له، أن {في غيابه يخسر لبنان وجها مسرحيا مؤثرا واعلاميا لامعا}، وقال: {وكأن قدر لبنان أن يخسر كباره الواحد تلو الآخر. بالامس القريب رحل الفنان عصام بريدي في حادث مؤسف، فبكاه جميع من عرفوه ممثلا مقتدراً وإنساناً محباً وشاباً كانت تضج به الحياة. واليوم يغيب ريمون جباره، وهو الذي ترك بصماته على خشبة المسرح اللبناني}.أضاف: {في غيابه يخسر لبنان وجهاً مسرحياً مؤثراً وناقداً لاذعا، وإعلامياً لامعا لا تزال كلماته تفعل فعلها، من خلال العديد من المقالات التي كتبها في أكثر من صحيفة لبنانية، وعبر أثير {صوت لبنان} من خلال إطلالاته الصباحية في برنامج {آلو ستي}. وقد تولى لفترة من الزمن رئاسة مجلس ادارة تلفزيون لبنان، وطبعه بطابعه الراقي والمتجدد}.ختم: {ريمون جباره واحد من الاسماء اللامعة التي كان لحضورها نكهة مميزة سيذكرها تاريخ الفن المسرحي من خلال أعمال باقية على الزمن}.كذلك غرّد رئيس حزب {القوات اللبنانية} الدكتور سمير جعجع عبر {تويتر} ناعياً ريمون جبارة: {ريمون جبارة. مهما رحلت ستبقى معنا»...بدورها نعت إليسا الكاتب والمخرج والأديب ريمون جبارة، وكتبت عبر حسابها الخاص على موقع التواصل الاجتماعي: «كم من الصعوبة خسارة فنان كـريمون جبارة، هو جزء من ثقافتنا رحل اليوم، أرقد بسلام».أما شربل خليل فقال: «غاب المعلّم»، وغردت باميلا الكك: «الحزن حاطط راسو براسنا هالجمعة ومصرّ على دموعنا عالأشخاص الغالية».اقتبس نيشان عبارة من أغنية فيروز ليودع بها جبارة وغرد: «دايماً بالآخر في آخر، في وقت فراق»، وغرّد يوسف الخال: «بالأمس رحل عصام بريدي الأخ والصديق واليوم رحل ريمون جبارة الأب والأستاذ.. جبّارة دموعنا هذا الأسبوع»..أيضاً غردت جوليا قصّار: «ريمون جبارة كان يدخلنا إلى عالمه الخاص بأقل كلام ممكن، ولا يمكن أن نعبر عن محبتنا له مهما تحدثنا، فهو خسارة كبيرة، فنان من الزمن الجميل أحب الناس وأحبوه وكان يكتب عن وجعهم أيضاً».من جهته غرد الملحن هشام بولس: «المسرحي الكبير ريمون جبارة في ذمة الله! فليكن ذكره مؤبّداً»، واكتفى جورج خباز بكلمة شكرا ليودّعه بها وغرد: «ريمون جبارة .... شكراً»، كذلك غرد كارلوس عازار: «استاذ ريمون جبارة متل ما خلّيت خشب المسرح يحكي... اليوم رح يكون عم يبكي... عصام ناطرك... يمكن المشهد الحقيقي يكون فوق».آراء ثاقبةفي أحاديثه الصحافية لم يتوانَ ريمون جبارة عن ذكر زملائه المسرحيين والفنانين وطلابه في معهد الفنون. صرّح مراراً بأن المخرج منير بو دبس {شاطر أكتر مما هو مبدع}، وعن زياد الرحباني قال: {بحب شغلو ولكن لم أعمل معه، هو سمعي وناقصو الحركة على المسرح، ومعو الله يرحمو جوزيف صقر فظيع}. أكد أن الممثلين يحبونه وهو يحبهم، ويفتقد للذين عملوا معه ورحلوا مثل رضا خوري ومادونا غازي وفيليب عقيقي، أما المسرحية التي يحبها اكثر من غيرها فهي {لتمُت ديسدمونة}، كونها الأولى التي أخرجها.في سطوردرّس ريمون جبارة المسرح في معهد الفنون في الجامعة اللبنانية لغاية 1990، ثم انتقل إلى التدريس في جامعات لبنانية خاصة، وكتب على مدى سنوات طويلة عموده الأسبوعي في ملحق «النهار» الثقافي، وقدّم برنامجاً يومياً {ألو ستي} على أثير إذاعة {صوت لبنان}، استمر حتى قبيل وفاته.أسس مع رفيقٍ له دار الفنون والآداب وترأس «المركز اللبناني للمسرح» الملحق بمنظمة الأونسكو. متزوج من منى البشعلاني وهو اب لولدين جومانا وعمر.
توابل - مزاج
رحيل ريمون جبارة... المسرح خسر عاشقه
16-04-2015