باولو دالوليو... عاشق الإسلام مؤمن بعيسى
في 29 يوليو 2013، اختفى الأب باولو دالوليو في مدينة الرقة السورية التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بعدما دخلها عبر تركيا.
الأب دالوليو جزء من رومانسية الثورة السورية، التي سرعان ما تهاوت مع ظهور تنظيمات متطرفة، أبرزها {داعش} الذي اختطف الأب ولم يعنه أن رجل الدين تمرّد على المؤسسة الدينية التي ينتمي إليها ليناصر الثورة.
الأب دالوليو جزء من رومانسية الثورة السورية، التي سرعان ما تهاوت مع ظهور تنظيمات متطرفة، أبرزها {داعش} الذي اختطف الأب ولم يعنه أن رجل الدين تمرّد على المؤسسة الدينية التي ينتمي إليها ليناصر الثورة.
الأب باولو دالوليو نموذج واضح للثورات التي تأكل أبناءها ومؤيدينها، مناصرته الثورة السورية لم تمنع الدواعش من إخفائه، مثله مثل إعلاميين ومواطنين عاديين ضربتهم السكين في نحورهم، فصار الأب المثقف والمنفتح حديث وسائل الإعلام والكتّاب، وموضوع مقالات وتعليقات ثقافية ووجدانية، وتُرجم إلى العربية كتابه {عاشق الإسلام مؤمن بعيسى}، عن دار {الفارابي}.لا شك في أن للأب باولو رمزية مختلفة عن كثيرين، سواء في شخصيته أو مواقفه، وميزته لا تبدأ من مناصرته الثورة السورية، بل من مواقفه الدينية عموماً. هو الأب الذي أرسلته {الكنيسة المولعة بالكونية، والعاشقة لثراء الشعوب الروحي، ليصبَّ عجينة هويته المسيحية في قالب الإسلام}، كان نموذجاً للرجل المثالي الحالم والشخصية الفريدة في مواقفه وجرأته ومعارضته سواء للأنظمة أو للمؤسسة الدينية. وهو لم يسلم من النظام السوري أيضاً، إذ أمرته السلطات بمغادرة البلاد، فكان رده: {أفضل الصمت في سورية على الكلام في المنفى}. وضجَّت آنذاك مواقع التواصل الاجتماعي دفاعاً عنه، فكتب كثيرون: {سورية وطنك ووطنا وعلى طارديك الرحيل».
طالما رغب في أن يكون جزءاً من الإسلام، كما قال، {وأن أُنذر لمحبته، ولمحبة محمدٍ أولاً، صلى الله عليه وسلم، وعلى أمته السلام. عندما أقول إنني أنتمي إلى الإسلام، أعني أنني أنتمي إليه من المنظار الثقافي واللغوي والرمزي، في العالم الإسلامي أشعر بعمق انتمائي كما في وطني، أنا مسلم بسبب حب عيسى للمسلمين والإسلام، أنا مسلم وفقاً للروح وليس طبقاً للحرف، لأن الكلام يقتل، والروح تُحيي، وعلاقتي بالشريعة الإسلامية، وبالقرآن، وبالنبوءة يقيمها ويميزها ويـقررها ويقودها روح المسيح، بمعنى آخر أنني أختبر كيف أن عيسى الحي فيّ بدافع من إحسانه يلتقي بالإسلام بكل أبعاده}. لكن الكلام التسامحي والانفتاحي الروحاني اللاهوتي لم يمنع الدواعش من إخفاء الأب باولو. هؤلاء لا تحمل رؤوسهم سوى ثقافة الحرب وتدمير الآخر، ولا يقابل غريزتهم سوى العقل الاحترابي.اليوم، ربما استسلم كثيرون لغياب الأب، مشاهد النحر اليوتيوبي كانت كافية لفقدان الأمل بعودته، ولفَّ الغموض مصيره. فلا الدعوات لقيت مجيباً، ولا الأخبار تعطي أملاً. صفحات كثيرة له على مواقع التواصل الاجتماعي، انشأها محبوه، لا تحمل أي جديد، سوى لوحة {رصاصية} لوجهه المؤمن بريشة الفنان السوداني ناصر بخيت. وقد سبقها تعليق يقول: {يؤكد بعض التقارير مقتل الأب باولو على يد داعش المتطرف الذي قتل وأعتقل المئات من نشطاء الثورة السورية. الرحمة لروحك الطاهرة}. كأننا أمام خوف من استحالة الخلاص، بعدما غرقت الثورة السورية كلها، وتآكلت سورية الوطن. ثمة صفحات تروّج كتابه، ولكنّ تذكار الرجل المثالي يتقلّص مع مسار الوقت، ويصبح غامضاً بغموض تنظيم {داعش}.لأجل مستقبل يريده مشرقاً بالسلام والوئام كَتَبَ الأب، فبقيت تجربته، الواضحة في كتاب يتناول الأمور الصغيرة والكبيرة على حدٍّ سواء ضمن رؤية تضعها في سياقٍ يشمل العالم برمّته. وببراعة، لا يتوانى في مناقشة قضايا خلافيّة وحسّاسة، فيقاربها من منظورٍ جديد دافعاً نحو توسيع الحدود التي بلغتها الكنيسة في انفتاحها على الإسلام، ومطالباً الأمّة الإسلاميّة بانفتاح ذاتيّ أيضاً.قدَّم لـ{عاشق الإسلام مؤمن بعيسى} المهتم بعلم الأديان والميديا المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، فقال عن الأب باولو وكتابه: {لا أتصوّر أنني كنت سأكتب تقديماً لمثل هذا الكتاب لو أنّ مؤلّفه لم يكن الأب باولو}... الذي {لا يمارس المديح الأعمى، المتطرّف، وحيد الجهة، للإسلام، ولا يحاول أن يعرض مثل المؤرّخ الإرث الحضاريّ الإسلاميّ في الحضارة العالمية؟}. يتابع: {هذا النوع من المجهود في الحوار المتبادل بات نادراً. وقد التزم به يوماً الكاهن اللبناني يواكيم مبارك، من منطلق ماروني، ويلتزم به منطلقاً من روما، عاصمة الكثلكة في العالم».سورا وفحص الأب باولو، متكلم اللغة العربية كما العرب، لم تنفع الوسائط في معرفة أي أمر عنه، على أن العصبيات الطائفية لم تهتم به فبقي مخطوفاً أو ربما قتل. مصيره يستحضر مصير الباحث الفرنسي ميشال سورا الذي أحب العرب كثيراً وكتب عن الدولة البربرية في سورية وعن باب التبانة، وبسبب كتاباته خُطف وبقي في سجن خاطفيه حتى الموت. وانحياز الأب إلى الانفتاح على الرغم من ثوبه الديني، يعود بنا أيضاً إلى {العمامة المعتدلة} العلامة الراحل السيد هاني فحص، الذي آمن بالآخر المختلف عنه. وبوعي ديني ثقافي، فتح له قلبه وعقله وصافحه.دافعاً نحو توسيع الحدود الّتي بلغتها الكنيسة في انفتاحها على الإسلام، ومطالباً الأمّة الإسلاميّة بانفتاح ذاتيّ أيضاً، سلَّط دالوليو الضوء على قضايا خلافيّة وحسّاسة، فقاربها من منظورٍ جديد، وهذا ربما ما دفع بالدواعش إلى خطفه في تاريخه. هم الذين أتوا لدحر الآخر وهو الذي ترك بلده إيطاليا لشد اللحام بين الديانتين. والحال أن اختفاءه يشكّل صورة واقعية عمّا آلت إليه الأوضاع في سورية. هي انهارت من مرحلة حالمة طامحة إلى التغيير ودحر الفارض والمفروض، إلى جحيم يلتهم الرطْب واليابس، في بلد مفتوح على المجهول.نبذة ولد باولو دالوليو في روما سنة 1954 لأسرة دينية. لمع والده في الحزب المسيحي الديمقراطي، وانخرط الابن في بداية حياته في الحزب الاشتراكي الإيطالي، ثم ذهب إلى الالتزام المسيحي الاشتراكي. لاحقاً، كرس نفسه للخدمة الدينية كراهب.درس الفلسفة في جامعة نابولي، وزار الشرق الأوسط، ثم عاد إليها في أوائل الثمانينيات ليدرس اللغة العربية في لبنان وسورية، ثم تسجل كمستمع في كلية الشريعة جامعة دمشق.تطوع أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 1982 كممرض في جنوب لبنان. وفي صيف ذلك العام زار أيضاً دير مار موسى المهجور، وقطن فيه لعشرة أيام. حصل على الدكتوراه من كلية الدعوة في روما سنة 1989، عن رسالة بعنوان {مفهوم الرجاء في الإسلام}.عاد إلى سورية أوائل التسعينيات ورمم دير مار موسى وأعاد إليه الحياة الرهبانية. وليجعله أحد مراكز حوار الأديان، وأحد أهم مواضع السياحة الدينية في سورية.