«لقاء» ميلان كونديرا!

نشر في 10-09-2014
آخر تحديث 10-09-2014 | 00:01
 طالب الرفاعي قراءة الكاتب التشيكي الأصل الفرنسي المعيشة "ميلان كونديرا-Milan Kundera" المولود عام 1929، سياحة في بحر الفلسفة والأدب والتاريخ. فكونديرا الذي هاجر من بلده تشيكوسلوفاكيا عام 1975 ليستقر في فرنسا، يحمل على كتفيه تاريخاً مليئاً بالموسيقى والأدب والفن والفلسفة، إضافة إلى وجعه الإنساني لأنه فقد وظيفته عام 1968 بعد الغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا، وانخراطه فيما عُرِفَ "بربيع براغ"، مما أدى إلى منع كتبه من التداول وملاحقته، ليفر بنفسه خوفاً من مصير قد يقوده الى الهلاك.

"لقاء" المعنون بالفرنسية بـ"UNE RENCONTRE" كتاب كونديرا بترجمة "روز مخلوف" عن دار الجندي للنشر والتوزيع، هو لقاء مع منعرجات الحياة والكتابة، ما ظهر منهما وما بطن. وعلى جانبي هذا اللقاء، نعرف الكثير عن حياة كونديرا، وقناعاته، ويبدو واضحاً أن هجرته من بلده شكّلت نقطة انعطاف حادة في حياته صبغت بصبغتها الموجعة كل حرف جاء بعدها.

فيما يشبه إهداء يكتب كونديرا: "... لقاء بين تأملاتي وذكرياتي، ثيماتي القديمة "الوجودية والجمالية"، وأحبائي القدامى، رابليه، ياناتشيك، فيلليني، مالابارت":ص5، ومنذ الصفحة الأولى يشعر القارئ بعمق وتأثير كل كلمة يخطّها ميلان، وأنه يمتلك ذاكرة حاضرة، وقادرة على قراءة الموقف الإنساني بأبعاده الأدبية والفنية، وتفسيره وفق نبض العصر الراهن.

يكتب كونديرا عن الكاتب الأميركي الأشهر "فيلب روث" فصلاً يعنونه: "الحب في التاريخ المتسارع": "لقد أدى تسارع التاريخ إلى تغيير عميق في حياة الفرد التي كانت، في القرون الماضية، تجري في قرن تاريخ واحد، أما اليوم فإنها تغطي جانباً من قرني وأحياناً أكثر. إذا كان التاريخ يتقدم في السابق على نحو أبطأ بكثير من حياة البشر، فإنه اليوم هو الذي يمضي أسرع، هو الذي يركض، هو الذي يفلت من الإنسان، إلى درجة يُخشى معها أن تتحطم معها استمرار الحياة وهويتها". ص30، وكم تبدو هذه المقولة صادقة في منطقتنا العربية الملتهبة بعمى عنف حروبها، وقسوتها على الإنسان، حتى انها باتت تسحقه وبيئته كأكثر ما يكون السحق استخفافاً بحياة الكائن الحي وعالمه.

ومع هذه العنف الوحشي بات وجه التاريخ يتلوّن كل يوم بلون متغيّر، حتى ان أقلام الكتّاب تقف عاجزة ومشلولة عن توثيق المشهد الحياتي، فعبثية المشهد الدائر تسبق وتتفوق على أي فنتازيا في الكتابة والفن.

يبدو كونديرا فيلسوفاً أكثر منه أديبا روائياً بقوله: "ان فضيحة التكرار تمحوها دوماً وعلى نحوٍ رحيم فضيحة النسيان. النسيان ذلك الثقب الذي ليس له قرار والذي تغرق فيه الذكرى". ص41 إن حياتنا قائمة على هذا القول العجيب، في كون النسيان ثقبا يبتلع ذكرياتنا، السعيدة والمؤلمة، وأننا لولا هذا النسيان، لتزاحمت المشاهد في رؤوسنا، وربما قادنا ذلك إلى الانتحار أو الجنون.

ومن هذا المنطلق يأتي الأدب، وتحديداً الرواية، ليُبقي على الذكريات، يخلّدها بين دفتي كتاب، فأعظم ما في الكتابة الروائية هو أنها سجل خالد لتاريخ الإنسان الفرد، وبالتالي تاريخ البشرية. فمثلما يشكل الأبناء امتداداً لآبائهم، فإن الرواية هي امتداد إنساني في مسيرة التاريخ البشري.

إن سباقاً محموماً يجري في ميدان الكتابة الروائية، وهو لا يخص بلداً بعينه، بل هو حُمّة عالمية غزت الجميع، وصار الكثير من الكتّاب حول العالم يدّعي التجديد. لكن كونديرا، وهو الكاتب الروائي المبدع، الذي تُرجمت أعماله إلى ما يزيد على ثلاثين لغة، يقف متأملاً التجديد الحق، ليقول: "التجديد الذي يأتي به المعلّمون الكبار في الشكل يتصف دائماً بنوع من التكتّم، ذلك هو الكمال الحقيقي، ولا يسعى الجديد إلى لفت الأنظار إليه إلا عند المعلمين الصغار".ص71

back to top