في العودة إلى ربع قرن مضى ليس من السهل أن نختار سياسةً غربية يمكن فعلاً وصفها بالناجحة، وأثر مساعدات التنمية التي قدّمها الغرب موضع جدل ونقاش، أمّا التدخّلات الغربية في شؤون الشرق الأوسط، فحدّث ولا حرج: كارثية بامتياز.
لكنّ سياسةً غربية يتيمة تبرز من بين حطام السياسات الفاشلة بوصفها نجاحاً باهراً، خصوصاً إذا ما قيست بالتوقّعات المتدنية التي رافقت انطلاقها: ضمّ أوروبا الوسطى ودول البلقان إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبفضل هذا المشروع المزدوج، تمتّع أكثر من 90 مليون نسمة بأمانٍ وازدهار نسبيّين لأكثر من عقدين في منطقة ساعد تقلقلها التاريخي في إشعال فتيل حربين عالميتين.كان هذان "التوسّعان"، المتوازيان لكن غير المتطابقين (بعض الدول أعضاء في إحدى المنظّمتين لا كلتيهما) تحويليّين؛ لأنّهما لم يشكّلا قفزتين مباشرتين، بما لكلمة "توسّع" من معنى، بل مفاوضاتٍ بطيئة، إذ قبل الانضمام إلى الناتو، وجب على كلّ دولةٍ أن ترسّخ السيطرة المدنية على جيشها، وقبل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، كان على كلّ دولة تبنّي قوانين تحكّم التجارة والقضاء وحقوق الإنسان، فكانت النتيجة أن استحالت هذه الدول ديمقراطيّاتٍ، وأنّ "تعزيز الديمقراطية" هذا نجح حينها كما لم ينجح قطّ من قبل أو مذّاك الحين.لكنّ الأيّام تتغيّر، والتحوّل العجائبي الذي شهدته منطقة غير مستقرّة تاريخياً أمسى واقعاً رتيباً، وعوض الاحتفال بهذا الإنجاز في الذكرى الـ25 لسقوط جدار برلين، بات من المألوف اليوم أن يرى البعض أنّ هذا التوسّع، خصوصاً الذي شهده حلف الناتو، كان أمراً خاطئاً. يتمّ تذكّر هذا المشروع على نحو خاطئٍ باعتباره نتيجة "النصر" الأميركي الذي أذلّ إلى حدٍّ ما روسيا باستقدام المؤسّسات الغربية إلى جوارها المتهالك، وتستند هذه الأطروحة عادةً إلى التاريخ التحريفي الذي يغذّيه النظام الروسي الراهن، وهي أطروحة خاطئة.للأمانة: لا معاهدات قطّ وُقّعت مع روسيا تمنع حلف الناتو من التوسّع، ولم يحنث أيّ طرفٍ بوعوده، ولم يأتِ الدفع باتجاه توسّع حلف الناتو من الجانب الأميركي "المنتصر"، بل على العكس، أغلِق الباب في وجه أولى جهود بولندا لتحجز لنفسها مقعداً في عام 1992، وأتذكّر جيّداً ردّ الفعل الغاضب الذي أبداه السفير الأميركي في وارسو حينها. لكنّ بولندا ودولاً أخرى ألحّت في مطلبها، تحديداً لأنّها بدأت تلمح علامات النهج الانتقامي في أفق السياسة الروسية،وعندما بدأ التوسّع البطيء والحذر في نهاية المطاف يصير واقعاً، بُذلت جهود متواصلة لطمأنة روسيا، فلم تُنشأ أيّ قواعد عسكرية للناتو في الدول الأعضاء الجديدة، ولم تجرِ أيّ تدريباتٍ فيها حتى عام 2013، وتعهّد اتفاق أبرم بين روسيا والناتو في عام 1997 بعدم إشادة أيّ منشأة نووية، أضف إلى ذلك أنّ مجلساً يجمع بين روسيا والناتو أبصر النور في عام 2002، واستجابةً للاعتراضات الروسية، حُرمت في الواقع أوكرانيا وجورجيا من الانضمام إلى الناتو في عام 2008.وفي غضون ذلك، لم تتعرّض روسيا للـ"إذلال" في تلك الفترة، بل حتى إنّها مُنحت بحكم الواقع صفة "قوة عظمى"، يرافقها مقعد الاتحاد السوفياتي في مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة والسفارات السوفياتية، وتلقّت روسيا أيضاً الأسلحة النووية السوفياتية، وقد نُقل جزءٌ منها من أوكرانيا في عام 1994 مقابل الاعتراف الروسي بالحدود الأوكرانية، كذلك، عامل كل من الرئيس كلينتون وبوش نظراءهما الروس باعتبارهم قادة "قوة عظمى" ودعَواهم للانضمام إلى مجموعة الثماني، على الرغم من أنّ روسيا، التي لم تكن تتمتّع باقتصادٍ ضخم ولا بالديمقراطية، لم تكن تستوفي الشروط المطلوبة.وفي خلال هذه الفترة، وبخلاف أوروبا الوسطى، لم تسعَ روسيا قطّ إلى تحويل نفسها بما يتناسب والمعايير الأوروبية، بل على العكس، استلم الضبّاط السابقون في مخابرات الاتحاد السوفياتي (الـ"كيه جي بي")، الذين عبّروا عن ولاءٍ واضحٍ للنظام السوفياتي، زمامَ الأمور في الدولة بالتحالف مع أقطاب الجريمة المنظّمة، وسعوا إلى الحؤول دون إنشاء المؤسسات الديمقراطية في روسيا وتقويضها في الخارج، وعلى مدى العقد المنصرم، سعت هذه الزمرة السارقة إلى إعادة إنشاء إمبراطوريتها، مستخدمةً ما أتيح لها من وسائل، بدءاً بالهجمات الإلكترونية على إستونيا وصولاً إلى الاجتياحين العسكريين في جورجيا وأوكرانيا راهناً، في مخالفة فاضحة للاتفاق الذي أبرم في عام 1994، وهو تماماً ما كانت تخشاه أوروبا الوسطى.ما إن نتذكّر ما الذي جرى حقاً خلال العقدين المنصرمين، أي بخلاف ما يريد النظام الروسي إقناعنا به، حتى تبدو أخطاؤنا مختلفةً، فلم تعد روسيا في عام 1991 قوة عظمى من الناحيتين السكانية والاقتصادية، فلمَ إذاً لم نتعرف بالواقع، ونصلح الأمم المتحدة ونعطي الهند واليابان ودولاً أخرى مقعداً في مجلس الأمن؟ ولمَ تحوّل روسياً نفسها بما يتناسب والمعايير الأوروبية؟ ولمَ ظللنا نزعم أنّها فعلت ذلك؟ إنّ إسباغنا صفة "الديمقراطية" على روسيا أفقد الكلمة في نهاية المطاف مصداقيتها في روسيا نفسها.أمّا الأزمة في أوكرانيا وإمكانية نشوب أزمة أخرى في قلب حلف الناتو نفسه، فليستا نتيجة انتصارنا بل إخفاقنا بالردّ على خطاب روسيا العدواني وإنفاقها العسكري، فلمَ لم ننقل قواعد الناتو شرقاً قبل عقدٍ من الزمن؟ لقد أدّى إخفاقنا في فعل ذلك إلى فقدان رهيب للثقة بأوروبا الوسطى، وباتت الدول التي تاقت يوماً إلى الانضمام إلى الائتلاف خائفةً اليوم، في حين تقلق سلسلةٌ من الاستفزازات الروسية منطقة البلطيق بأسرها، بدأت مع انتهاك المجال الجوي السويدي، ولن تنتهي مع اختطاف ضابط أمنٍ إستوني.لم يكن الخطأ الذي اقترفناه أنّنا لم نذل روسيا، بل أنّنا قلّلنا من إمكاناتها الانتقامية والتحريفية والتخريبية، وإذا بات اليوم الإنجاز الغربي الحقيقي اليتيم خلال ربع القرن المنصرم في مرمى النيران، فهذا مردّه إلى إخفاقنا في الحرص على أن يستمرّ حلف الناتو بفعل ما أنيط دوماً به، أي الردع، فالأخير ليس سياسةً عدوانية، بل سياسة دفاعية، لكن لا بدّ أن يتجلّى الردع واقعاً إذا ما أريد أن يُكتب له النجاح، وهذا يتطلّب أن يقدّم الغرب، خصوصاً الولايات المتّحدة، ما يلزم من استثمارات وتعزيز ودعم، يسرّني أن ألقي اللوم على الانتصار الأميركي في أمورٍ كثيرة، لكنّني أتمنى لو ثمة في أوروبا المزيد منه. * آن أبلبوم | Anne Applebaum
مقالات
أسطورة الذلّ الروسي
24-10-2014