المكسيك ومشكلة النمو

نشر في 18-11-2014
آخر تحديث 18-11-2014 | 00:01
مثلها مثل بلدان أخرى كثيرة، تأثرت المكسيك بشدة بالمنافسة الصينية في الأسواق العالمية، ولاسيما بعد أن أصبحت الصين عضواً في منظمة التجارة نهاية 2001، ورغم هذا فإن قُرب المكسيك من سوق الولايات المتحدة كان من الأسباب التي وفرت لها قدراً كبيراً من الحماية.
 بروجيكت سنديكيت عندما وقَّع رئيس المكسيك السابق كارلوس ساليناس دي جورتاري ونظيره الأميركي بيل كلينتون اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) قبل أكثر من عشرين عاما، كان الأمل أن يندفع الاقتصاد المكسيكي إلى الأمام، بفعل موجة مرتفعة من العولمة، وبأكثر من مقياس نستطيع أن نقول إن ذلك الأمل قد تحقق بوضوح.

فقد ارتفع حجم التجارة الخارجية (مجموع الصادرات والواردات) المكسيكية بشكل مطَّرد بعد دخول اتفاقية النافتا حيز التنفيذ، فتضاعف تقريباً إلى أكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وتضاعفت تدفقات الاستثمار الخارجي نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى ثلاثة أمثالها، ورغم أن المكسيك دولة مصدرة للنفط، فإن صادراتها المصنعة كانت في الطليعة، مع اندماج الاقتصاد بشكل أكثر إحكاماً في سلسلة العرض في أميركا الشمالية، والآن أصبحت صناعات مثل صناعة السيارات وصناعة الصلب، التي كانت غير فعّالة، ولم تتمكن من البقاء إلا من خلال حواجز الحماية التجارية، عالية الإنتاجية ومزدهرة.

ومثلها مثل بلدان أخرى كثيرة، تأثرت المكسيك بشدة في بداية الأمر بفعل المنافسة الصينية في الأسواق العالمية، وخاصة بعد أن أصبحت الصين عضواً في منظمة التجارة العالمية نهاية عام 2001، ورغم هذا فإن قُرب المكسيك من سوق الولايات المتحدة وسياساتها النقدية والمالية وسياسات سوق العمل المحافظة كانت من الأسباب التي وفرت لها قدراً كبيراً من الحماية.

وعلاوة على ذلك، سجلت الأجور بالدولار نمواً أبطأ كثيراً من نموها في الصين، ونتيجة لهذا فإن العمالة في المكسيك الآن أرخص بنحو 20% بالأرقام النسبية، وبوضع اتجاهات الإنتاجية في الحسبان، فإن تكاليف وحدة العمل أيضاً ارتفعت بنسبة أقل مقارنة بالصين وغيرها من المنافسين الرئيسيين، الأمر الذي سمح للمكسيك منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين باستعادة جزء من حصة السوق التي خسرتها في وقت سابق.

ولم تأت المكاسب من الجبهة الخارجية فحسب، فعلى نحو لافت للنظر، بدأت مستويات التفاوت المفرطة الارتفاع في المكسيك تهبط منذ عام 1994، ويرجع جزء كبير من الفضل في هذا إلى إصلاحات السياسة الاجتماعية وتحسين التعليم.

ويظهر نجاح المكسيك في كل مكان، باستثناء المجال الذي يمثل النجاح فيه القدر الأكبر من الأهمية على المدى البعيد: الإنتاجية الإجمالية والنمو الاقتصادي، ففي هاتين المنطقتين كانت خيبة الأمل وافرة. والعجيب في الأمر أن متوسط نمو إنتاجية العامل الكامل ــ مقياس كفاءة استخدام موارد الاقتصاد البشرية والمادية ــ كان سلبياً منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين.

ونتيجة لهذا، انخفضت مستويات المعيشة في المكسيك لتبتعد عن مثيلاتها في الولايات المتحدة وأغلب اقتصادات الأسواق الناشئة، وقد لا نجد أي دولة أخرى في العالم تقدم قدراً أوضح من هذا التناقض بين النجاح الخارجي والفشل الداخلي.

وتكمن خلف هذا التناقض ظاهرة "المكسيك المنقسمة إلى قسمين"، وهو المصطلح الذي استخدمه معهد ماكينزي العالمي لوصف الثنائية المتطرفة التي تميز الاقتصاد المكسيكي، فقد كان أداء الشركات الكبيرة الموجهة نحو الاقتصاد العالمي طيباً إلى حد كبير، في حين كان أداء الشركات التقليدية غير الرسمية، المتمثلة في محال الفطائر المتواجدة في كل مكان، ضعيفاً بشكل واضح، في حين استمر في امتصاص القسم الأكبر من قوة العمل في الاقتصاد، وكان نجاح الأول في حكم الملغي بفعل العبء الذي فرضه الثاني.

ولكن الإثارة بشأن آفاق المكسيك آخذة في الازدياد، إذ أطلق الرئيس إنريكي بينيا نييتو موجة جديدة من الإصلاحات، التي يتقدمها تحرير قطاع الطاقة، والذي من شأنه أن يسمح بالاستثمار الأجنبي في استكشاف وإنتاج النفط، وبهذا فإن شركة بيميكس للنفط المملوكة للدولة، والتي تحتكر ثلاثة أرباع البلاد، ستواجه منافسة محلية أخيرا. والواقع أنه حتى المراقبون الرصينون من أمثال مارتن فيلدشتاين من جامعة هارفارد يتحدثون بحماس عن المكسيك، فيعلنون أن إصلاحاً بينياً قد يضع البلاد على المسار إلى التحول إلى "نجم اقتصادي لامع في سماء أميركا اللاتينية في العقد المقبل".

ورغم هذا فإن تجربة المكسيك مع اتفاقية "النافتا" لابد أن تجعلنا حذرين جداً في التعامل مع مثل هذه التكهنات، فقد رأينا كيف تعثرت إصلاحات أكثر شمولاً، فهل تسفر إصلاحات الطاقة عن فجر آخر كاذب؟

يتعين على صناع السياسات أن يضعوا في الحسبان درسين من تجربة المكسيك المحبطة مع العولمة حتى الآن، أولهما أنه لا تكفي التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي وحدهما لرفع الاقتصاد في غياب التطوير المتزامن للقدرات الإنتاجية في الداخل.

والسبب وراء معجزات النمو التي شهدتها القوى المصدرة الكبرى في شرق آسيا، اليابان وكوريا الجنوبية والصين، هو أن حكومات بلدان المنطقة عملت على الجبهتين في وقت واحد، صحيح أنها دفعت شركاتها إلى الأسواق العالمية، ولكنها انخرطت أيضاً في مجموعة واسعة من السياسات الصناعية لضمان نمو هذه الشركات وقدرتها على التنوع في خطوط إنتاج جديدة.

الواقع أن المنتجين المحليين كانوا غالباً يتمتعون بالحماية من المنافسة الأجنبية في الداخل لضمان قدرتهم على الاستمرار في تحقيق القدر الكافي من الربح للقيام بالاستثمارات اللازمة، ولم يعد بوسع بلدان مثل المكسيك أن ترتد إلى تدابير الحماية، ويتعين عليها بالتالي أن تجرب مع استراتيجيات بديلة لدعم الشركات المحلية.

ويتلخص الدرس الثاني في الحاجة إلى البراغماتية في تصميم السياسات، فلفترة طويلة، كانت سياسات المكسيك الاقتصادية تعكس رأياً مفاده أن الاقتصاد الحقيقي سيرعى نفسه بنفسه بمجرد توظيف "الأساسيات" (استقرار الاقتصاد الكلي، والانفتاح، والتنظيمات الأساسية) على النحو الصحيح. وعلى حد تعبير رجل الاقتصاد المكسيكي إنيركي دوسيل بيترز فإن هذه هي عقلية "خبير الاقتصاد الكلي" التي تختلف تمام الاختلاف عن عقلية "المهندس" الذي يحل المشاكل والتي ميزت عملية صناعة السياسات الآسيوية.

سيكون لزاماً على المسؤولين المكسيكيين أن يعكفوا على تطوير حوار أوسع وشراكة أكبر مع القطاع الخاص من أجل تشخيص وإزالة العقبات القطاعية التي تواجهها الشركات المحلية، وهذا التعاون مهم بشكل خاص للشركات المتوسطة الحجم التي توشك على اقتحام عالم الكبار، وسيضطرون إلى العمل بوصفهم "مهندسين" أكثر من كونهم "خبراء في الاقتصاد الكلي".

الحق أن فشل المكسيك في تحقيق النمو يظل لغزاً محيراً، ولا يوجد تفسير بسيط لهذا الفشل، ومن غير المرجح أن تتمكن أي استراتيجية كبرى منفردة، سواء كانت فتح قطاع النفط، أو تحسين القدرة على الوصول إلى التمويل، أو مكافحة العمل غير الرسمي، أو تبديل السياسة الصناعية، من فتح الأبواب إلى النمو السريع العريض القاعدة.

ويؤكد عدم اليقين هذا الحاجة إلى حكومة رشيقة سريعة الاستجابة وقادرة على التحرك على جبهات متعددة في وقت واحد، والتعرف على المشاكل التي تواجه الاقتصاد الحقيقي، والاستجابة لها بشكل براغماتي عملي.

* داني رودريك ، أستاذ العلوم الاجتماعية في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون بولاية نيوجيرسي، ومؤلف كتاب "مفارقة العولمة: الديمقراطية ومستقبل الاقتصاد العالمي".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top