توجيه غرائز الصين الحيوانية

نشر في 15-06-2015
آخر تحديث 15-06-2015 | 00:01
مع فرض قيود أشد صرامة على الميزانية من الحكومة المركزية في بكين، اضطر المسؤولون المحليون والشركات المملوكة للدولة إلى الحد من الإنفاق على الاستثمار، والآن أصبحوا مفرطين في الحذر، وفي الأمد القريب، قد تؤدي إعادة الهيكلة على هذا النحو إلى ركود الميزانيات المحلية.
 بروجيكت سنديكيت خفض بنك الشعب الصيني أسعار الفائدة، للمرة الثالثة في غضون ستة أشهر، من أجل التخفيف من أعباء الديون المستحقة على الشركات والحكومات المحلية، ولكن التيسير النقدي الذي يبناه بنك الشعب الصيني- مصحوباً بالتعديلات المالية والإدارية التكميلية- لم يفعل شيئاً يُذكَر لزيادة الطلب على قروض جديدة، بل تسبب بدلاً من ذلك في ارتفاع حاد في أسواق البورصة في الصين، والسؤال الآن هو ما إذا كان ذلك قد يتحول إلى تطور جيد للغاية.

لا شك أن الاقتصاد الصيني يبدل سرعته برشاقة كبيرة، فالإحصاءات الرسمية تُظهِر بعض التباطؤ في النمو الحقيقي في الاقتصاد القديم القائم على التصنيع والبناء، والذي انعكس في تراجع أرباح الشركات، وارتفاع معدلات التخلف عن سداد الديون، وزيادة القروض المتعثرة في المدن والمناطق الأسوأ أداء، ومن ناحية أخرى، فرضت السياسات التي تنتهجها الحكومة للتصدي للفساد والقدرة الفائضة وديون الحكومات المحلية المفرطة والتلوث ضغوطاً تدفع معدلات الاستثمار والاستهلاك وقدرة الحكومة على تحقيق معدل النمو الذي وعدت به إلى التراجع.

ومع فرض قيود أشد صرامة على الميزانية من الحكومة المركزية، اضطر المسؤولون المحليون والشركات المملوكة للدولة إلى الحد من الإنفاق على الاستثمار، والآن أصبحوا مفرطين في الحذر، وفي الأمد القريب، قد تؤدي إعادة الهيكلة على هذا النحو إلى ركود الميزانيات المحلية، رغم الجهود التي تبذلها السلطات لخلق بيئة أكثر ملاءمة للاقتصاد الكلي.

وعلى النقيض من ذلك، يستجمع القطاع الخاص قوته، بعد أن ساهمت الإصلاحات الإدارية الأخيرة في ارتفاع بنسبة 54% في تسجيل الأعمال التجارية منذ مارس 2014، كما ساعدت زيادة الإبداع والابتكار وصعود قطاع الخدمات الصين في تجاوز الدور الذي تلعبه بوصفها مصنع العالم إلى تطوير نسخة خاصة بها من إنترنت الأشياء، والذي يقوم على شركات مثل علي بابا وتينسنت.

وقد شهد العام الماضي وحده فتح 14.3 مليون حساب جديد للتداول في سوق الأسهم في الصين، كما دفعت تخفيضات أسعار الفائدة من بنك الشعب الصيني مؤشرات شنغهاي، وشنتشن، وتشينكست إلى الارتفاع بنسبة 95%، و198%، و383% على التوالي، منذ يناير 2013، ونمت القيمة الرأسمالية لسوق الأوراق المالية في الصين من 44% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2012 إلى 94% من الناتج المحلي الإجمالي في وقت سابق من هذا الشهر، ولا يخلو هذا من عواقب مهمة كبيرة؛ إيجابية وسلبية.

فعلى الجانب الإيجابي، يمثل إحياء سوق الأسهم الصينية في بيئة تتسم بأسعار الفائدة المنخفضة تحولاً مهماً في توزيع الأصول بعيداً عن العقارات والودائع. الواقع أن ما يقرب من 50% من المدخرات الصينية- التي تعادل نصف الناتج المحلي الإجمالي- تكمن في العقارات وحدها، مع 20% في الودائع، و11% في الأسهم، و12% في السندات. وعلى سبيل المقارنة، في الولايات المتحدة، تمثل كل من العقارات والتأمين ومعاشات التقاعد نحو 20% من إجمالي المدخرات، مع 7.4% في الودائع، و21% في الأسهم، و33% في السندات.

كما يساعد ارتفاع رسملة سوق الأسهم في الحد من تعرض الاقتصاد الحقيقي للتمويل المصرفي، فالولايات المتحدة أكثر اعتماداً على القطاع المالي مقارنة بالصين، حيث بلغت قيمة الأسهم والسندات 133% و205% من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي، في نهاية 2013، وكانت هاتان النسبتان 35% و43% فقط على التوالي في الصين. ومن ناحية أخرى، بلغت أصول البنوك نحو 215% من الناتج المحلي الإجمالي، أكثر من ضعف النسبة في أميركا (95%).

وأخيرا أدى ارتفاع سوق الأسهم في الصين إلى زيادة صافي الثروة بنحو 37 تريليون يوان صيني (6 تريليون دولار أميركي)، أو ما يعادل 57% من الناتج المحلي الإجمالي في الصين، في غضون ثمانية عشر شهراً فقط، وإذا تسنى لأسعار الأسهم أن تستمر على هذا المنوال، فإن العواقب على الاستهلاك والسيولة والاستثمار بالاستدانة سوف تكون عميقة، وسوف تتمكن الأسر الذكية ورجال الأعمال من الاستفادة من الأرباح لتقليص الديون، وعلى نحو مماثل، من الممكن أن تستفيد الشركات الخاصة والشركات المملوكة للدولة من ارتفاع السوق لزيادة رأس المال لتمويل استثمارات جديدة.

ولكن الصعود السريع في أسعار الأسهم يحمل في طياته أيضاً مخاطر كبيرة، أو على وجه التحديد احتمال إساءة استخدام القطاع المالي للسيولة الجديدة في تمويل المزيد من الاستثمار القائم على المضاربة في فقاعات الأصول، فضلاً عن دعم الصناعات القديمة ذات القدرة الفائضة، وهذا هو ما حدث في 2008 و2009، عندما أدى الارتفاع السريع في مؤشر شنغهاي (الذي بلغ 6092 نقطة في أكتوبر 2007)، فضلاً عن حزمة التحفيز الحكومية التي بلغت 4 تريليونات يوان، إلى استمرار القدرة الفائضة في الصناعات التقليدية، وقد ذهب أغلب الائتمان إلى القطاع العقاري ومشاريع البنية الأساسية المحلية، الأمر الذي أدى فعلياً إلى تعزيز الاتجاهات الأكثر إثارة للمتاعب في الاقتصاد الصيني.

ويأمل المرء أن تكون هذه المرة مختلفة، ولكن حتى إذا بدأ صغار المستثمرين الصينيين توجيه أموالهم نحو مشاريع مبدعة، فإن تحديد الشركات والصناعات الأقرب إلى النجاح سوف يكون مهمة صعبة.

في الولايات المتحدة، ترتب على انهيار فقاعة التكنولوجيا في عام 2000 خسارة بلغت 4 تريليونات دولار في القيمة السوقية الرأسمالية، ولكن الولايات المتحدة تمكنت من تجنب أزمة جهازية شاملة، وإذا سُمِح للغرائز الحيوانية في الصين بالعمل من خلال آليات السوق، والتمييز بين القيمة الحقيقية والأسعار المرغوبة، فإن الصين أيضاً من الممكن أن تبقى على المسار إلى الاقتصاد الجديد، على الرغم من الإخفاقات ومحاولات ضبط الأوضاع المالية التي ستحدث لا محالة.

مع توجيه الغرائز الحيوانية في الصين، فإنها سوف تختبر على نحو متزايد عزيمة السلطات على مقاومة التدخل في الأسعار، والسماح بدلاً من ذلك لقوى السوق بدفع الدورة الاقتصادية، ولن يكون هذا بالمهمة السهلة، وذلك لأن بنك الشعب الصيني يتمتع بحيز إضافي كبير للتيسير النقدي.

الواقع أنه في نهاية العام الماضي، كانت الصين ولا تزال تملك احتياطيات نظامية تبلغ 22.7 تريليون يوان، وتعادل نحو 36% من الناتج المحلي الإجمالي، والتي استُخدِمَت لفترة طويلة "لتعقيم" حيازاتها الضخمة من النقد الأجنبي. ومن الممكن أن تُعاد هذه "السيولة الحبيسة" إلى السوق في هيئة ائتمان مصرفي جديد أو أسهم جديدة.

ولهذا السبب، يصبح الاختبار الحقيقي للإصلاحات الإدارية في الصين هو ما إذا كانت ستسمح- بل حتى تسهل- بالأداء الفعّال لقوى السوق، من خلال آليات الإفلاس المحسنة والقواعد التنظيمية التي تعمل على منع الاحتيال والتلاعب بالسوق. ومع توجيه المسار من خلال الغرائز الحيوانية- وليس السلطات- تستطيع الصين أن تعمل على بناء اقتصاد القيمة المضافة العالية الذي تحتاج إليه للمنافسة في المستقبل.

أندرو شنغ & شياو غنغ

* أندرو شنغ زميل متميز لدى معهد فونغ العالمي، وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لشؤون التمويل المستدام، وشياو غنغ مدير الأبحاث لدى معهد فونغ العالمي.

«بروجيكت سنديكيت»  بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top