أيها السياسي... لا خصوصية بعد اليوم
لا يمكن تأكيد أو نفي صحة التسريب «الخليجي» للسيسي، عبر الوسائل المتاحة لنا كمتابعين، مع الأخذ في الاعتبار أن ما تم تسريبه يهدف إلى الإضرار بالعلاقات المصرية- الخليجية، وأن آثار المعالجة الفنية بادية فيه، وأن القوى المعادية للدولة المصرية تلقفته وعملت على استثماره.
في 9 يناير 2010، أعلن مارك زوكربيرغ، مؤسس "فيسبوك" Face Book، أن "الخصوصية لم تعد قاعدة اجتماعية"؛ وهو أمر لم يكن مفاجئاً لكثيرين، خصوصاً في ظل الفضائح الكبيرة التي تحفل بها مواقع التواصل الاجتماعي، وانتشار كاميرات المراقبة في كل مكان، واختراق الأنظمة الإلكترونية.سيمكننا بعد خمس سنوات من إطلاق مقولة زوكربيرغ أن نجري تعديلاً بسيطاً لها على هذا النحو: "الخصوصية لم تعد قاعدة سياسية أيضاً".ففي شهر أكتوبر من عام 2013، اعترف الرئيس الأميركي باراك أوباما بأن حكومته تجري عمليات تنصت ومراقبة بحق أشخاص، ومسؤولين، وأعضاء في الكونغرس، وأيضا بحق بعثات أجنبية، وحكومات، وأجهزة أمنية تابعة لدول أخرى، بعضها من الدول الحليفة مثل ألمانيا وفرنسا.لقد جاء اعتراف أوباما على خلفية قيام العميل الأميركي في جهاز الأمن القومي إدوارد سنودن بالكشف عن قيام هذا الجهاز بعمليات تنصت وانتهاك خصوصية واسعة النطاق.وبالفعل، كان هناك عدد من التسريبات التي أمكننا من خلالها أن نطلع على ما يقوله قادة كبار لمساعديهم أو ضيوفهم، كما أمكننا أن نعرف أسراراً كثيرة يصعب جداً على أعتى أجهزة الاستخبارات الإلمام بها.ستذكرنا واقعة سنودن بوقائع أخرى شهيرة تتعلق بأحد أكثر الرجال جرأة في انتهاك "الخصوصية السياسية"... إنه جوليان أسانغ، المسؤول عن موقع "ويكيليكس".لقد أطلق أسانغ موقعه الإلكتروني "ويكيليكس" في عام 2006، زاعماً أنه يقوم بعرض مادة حصل عليها نشطاء وصحافيون من أكثر من دولة، ومعلناً أن بحوزته نحو 1.6 مليون وثيقة مهمة وخطيرة.بعدها بدأ العالم يرقص على إيقاعات أسانغ، التي صنعها بتسريباته الخطيرة والانتقائية، ومن خلالها أمكننا أن نطلع على ما قاله سفراء ووزراء وقادة دول في قاعات محكمة الغلق، أو في جلسات ودية لتناول الشاي، أو عبر أسلاك الهواتف. واستطاع العالم بسبب هذا الموقع أن يقرأ نصوصاً ووثائق وتفريغاً للعديد من المكالمات هاتفية، وأن يحصل على رسائل مرسلة من بعثات دبلوماسية إلى الحكومات التي تتبع لها، مما كشف العديد من وقائع الاغتيال ذات الطابع الدولي، وبعض وقائع الفساد التي طالت رؤساء دول وحكومات ومسؤولين رفيعي المستوى، وطيفاً عريضاً من المؤامرات السياسية، فضلاً عن عشرات الأحاديث التي تمت بين سياسيين بارزين، والتي يمكن وصفها بأنها ببساطة "نميمة سياسية"، تعكس مواقف حادة ومتباينة، ولم تكن معروفة في العلن. وفي العام الماضي، شن الرئيس التركي أردوغان معركة كبيرة ضد خصومه، وعزل قضاة، وضباط شرطة، وهاجم مقار وسائل إعلام، وأغلق موقع "تويتر"، و"يوتيوب"، وهدد بغلق "فيس بوك"، لأن مكالمات خطيرة تكشف وقائع فساد تتعلق برجاله المقربين تم تسريبها وإذاعتها.وفي مصر ثمة قصة يجب ذكرها في هذا السياق، فقد استطاع أحد الإعلاميين الحصول على تسجيلات لمكالمات هاتفية تخص نشطاء "ثورة يناير"، في عامي 2013 و2014، وهي المكالمات التي راح يذيعها بانتظام عبر برنامجه المعنون بـ"الصندوق الأسود".لقد قامت جهة ما بتسجيل أغلب مكالمات هؤلاء النشطاء مع بعضهم بعضا، ولسبب ما فقد باتت تلك التسجيلات في حوزة الإعلامي المعادي لهم ولنشاطهم، ولسبب آخر فقد تخير من تلك المكالمات ما يمكن عرضه على الجمهور ليشوه سمعتهم ويلطخ سمعة الثورة في آن.لكن ثمة جديد من مصر أيضاً في ما يتعلق بالتسريبات وعلاقتها بالخصوصية السياسية، إذ تمت إذاعة ما قيل إنه "تسريبات" من مكتب السيسي حين كان وزيراً للدفاع، عبر قناة فضائية تتبع تنظيم "الإخوان"، وتتخذ من تركيا مقرا لها.نفت السلطات المصرية، على أكثر من مستوى، صحة هذه التسريبات بطبيعة الحال، كما أن هناك الكثير من الأسباب التي تشير بوضوح إلى أن تلك التسريبات "مفبركة" أو معالجة، بحيث تعطي النتائج السلبية المرجوة على العلاقات المصرية- الخليجية، بالشكل الذي يخدم مصلحة "الإخوان" وداعميهم الإقليميين والدوليين، الذين استثمروا في هذا الأمر، لتجريد مصر من ورقة الدعم الخليجي.لكن يجب ألا ننسى شيئين؛ أولهما أن تلك التسريبات المنسوبة إلى السيسي ومكتبه ليست أولها؛ إذ تمت إذاعة أكثر من خمسة تسريبات سابقة، بعضها للرئيس نفسه خلال حديثه مع ضباط الجيش حين كان وزيراً للدفاع، وبعضها الآخر خلال حديث "خاص غير مصرح بنشره" مع صحافي مشهور، وبعضها لمعاونين مقربين منه للغاية.لا يمكن تأكيد أو نفي صحة التسريب "الخليجي" للسيسي، عبر الوسائل المتاحة لنا كمتابعين، مع الأخذ في الاعتبار أن ما تم تسريبه يهدف إلى الإضرار بالعلاقات المصرية- الخليجية، وأن آثار المعالجة الفنية بادية فيه، وأن القوى المعادية للدولة المصرية تلقفته وعملت على استثماره، وأن مجمل ما نسب إلى الرئيس قوله خلال المقطع المذاع لا يدينه بأي شيء أمام مواطنيه أو حلفائه من القادة الخليجيين.لكن مع ذلك، سيمكن تأكيد أن مكتب الرئيس مخترق، وأن تسريبات كثيرة خرجت منه على مدى السنتين الأخيرتين، وأنه من المتوقع أن نسمع له وعنه تسريبات أخرى عديدة.لقد مضى عهد الخصوصية كقاعدة اجتماعية كما قال زوكربيرغ، لكن الخصوصية لم تعد قاعدة أيضاً في العمل السياسي... وعلى أرفع المستويات. سيمكن لأي رئيس أو قائد سياسي أو دبلوماسي أو مسؤول استخباراتي أو عسكري رفيع أن يتوقع أن ما يقوله لضيوفه أو مضيفيه أو رؤسائه أو معاونيه، أو حتى أفراد عائلته، يمكن أن يكون مسجلاً، ويمكن أن يذاع على "اليوتيوب" والفضائيات.ستلقي تلك التطورات بأعباء كبيرة على السياسيين والقادة والدبلوماسيين؛ إذ ستحرمهم من القدرة على المرواغة والكذب والإفصاح عن مكنونات مشاعرهم والبوح بآرائهم الشخصية وانطباعاتهم... والأهم من ذلك أن مصطلح "سري للغاية" بات جزءاً من الماضي.سيتوقع كل مسؤول سياسي أن يتم فضحه يوماً، خصوصاً أن هناك ما يعزز اليقين في أن آلية ما باتت موجودة، ومن خلالها فإن الكل مستباح وبلا خصوصية سياسية تقريباً.* كاتب مصري