الغرامات المالية والاتفاقية الأمنية

Ad

سألني صديق، يقرأ بعض ما أكتب فيتصل بي مادحاً أو قادحاً أو عاتباً ورافضاً، بعد تناولي موضوع الغرامات المالية المفروضة على الوافدين في مقالين متتاليين، يومي 28 و30 ديسمبر الماضيين: لماذا غيرت موقفك الآن لقد كنتَ مع الاتفاقية الأمنية الخليجية في دراسة ومقال، سودت بهما هذه الصحيفة؟ قلت له وأزيدك من الشعر بيتاً بأنني قدمت في 3 يناير 2004 تقريراً للجنة التشريعية والقانونية بمجلس الأمة عن الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب ضمّنته دراسة لهذه الاتفاقية، انتهيت فيها إلى ما انتهيت إليه بالنسبة إلى الأمنية الخليجية من توافقها مع أحكام الدستور وأنها لا تخل بالحقوق والحريات العامة والحرية الشخصية التي كفلها الدستور، كما كتبت مقالاً احتل أكثر من نصف صفحة من صفحات جريدة الأهرام، كبرى الصحف المصرية، انتهيت فيه إلى ذات النتائج.

 وأضفت: ولكنني في دهشة من الربط بين الأمرين، فما علاقة هذه الغرامات بالاتفاقية الأمنية؟! فأجابني على الفور بسؤال آخر: ألم تقرأ ما صرح به أحد المسؤولين بأنه لا تراجع عن هذه الغرامات، لأنها قضية أمن قومي؟ فأجبته بأن فرض هذه الغرامات المالية على هذا الكم الهائل من الوافدين، غير القادرين مادياً على سدادها، يهدد السلام الاجتماعي، وهو جوهر الأمن القومي، فالعلاقة عكسية وليست طردية.

العدالة والسياسة ضدان

والواقع أن منهجي في البحث في كلا الأمرين، وفي كل ما أكتب، أن أبني نتائج بحثي على منظور دستوري وقانوني ومعطيات منطقية لا أملك سوى أدواتهما في البحث بحكم تخصصي المهني والعلمي، وهو منهج يختلف عن منهج أي سياسي أو طرف في المشكلة، لذلك فإنني أكره أن أوصف بما وصفني به الصديق، بأنني "مع" أو "ضد"، فالسياسي هو الذي يكون مع أو ضد، ولا تثريب عليه في ذلك، لأنه يخلع على مصلحة حزبه أو جماعته رداء الحق، وأستعيد في هذا ما قاله سياسي كبير وقديم هو الراحل مكرم (باشا) عبيد:

إن السياسة والعدالة ضدان لا يجتمعان... وإذا اجتمعا لا يتمازجان... والواقع أنهما مختلفان في الطبيعة والوسيلة والغرض... فالعدالة من روح الله والسياسة من صنع الإنسان... العدالة تطلب حقاً والسياسة تبغي مصلحة... غير أن أخطر ما في السياسة أنها ترى من حسن السياسة أن تخلع على المصلحة رداء الحق.

البحث عن الحقيقة

وللإعلام دور كبير في البحث عن الحقيقة، لأن الإعلام، سواء كان مقروءاً أو مسموعاً أو مرئياً، يجب أن يكون ضمير مجتمعه وضمير أمته في كل ما ينشر أو يذاع، ويجب أن يبتعد عن الإثارة والمبالغة والتهويل، وأن يبحث عن الحقيقة التي أضرها كثيراً ما نُشِر عن الغرامات المالية، وعن أساس فرضها، الذي لم يفهم منه القارئ شيئاً، لأن الإعلام لم ينشر إلا ما قاله المسؤولون من تبريرات لفرض هذه الغرامات، فالكلمة لها قداستها، والكاتب الصحافي الأمين المستقل هو من يحافظ على قدسيتها، في كل ما يكتب، بتجرد وبحيدة تامة عن كل أطراف المشكلة، فلا يجوز أن يكون مع طرف أو ضد طرف آخر. وإنما مع ما يراه حقاً وعدلاً.

القانون ليس غاية

والقانون ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لتنظيم العلاقات بين الحاكم والمحكوم وبين أفراد المجتمع بما يحقق السلام الاجتماعي، وكما أن غاية القانون هي غاية مشروعة فيجب أن يكون القانون، وهو الوسيلة، مشروعاً أيضاً، بعيداً عن الفكر المكيافيللي، الذي يقوم على أن الغاية تبرر الوسيلة، يقول المولى عز و جل: "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ" ويقول سبحانه: "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ".

فالله يأمرنا في ما نبتغيه من غايات مشروعة أن تكون وسائلنا إلى تحقيقها مشروعة أيضاً، فترسيخ مبدأ سيادة القانون واحترام قوانين البلاد وهيبة الدولة لا يكونان بالعقاب وحده وإنما بتوعية الناس بقوانين البلاد وألا يكون الجزاء على مخالفة هذه القوانين ممعناً في القسوة مغرقاً في الإيذاء والإيلام.

قانون العدل

وأستعيد في هذا من مسرحية "أنتيغون" الشهيرة، التي كتبها المؤلف المسرحي الفرنسي جون أنوي، ما قالته أنتيغون للملك عندما رفضت تنفيذ أوامره التي فرضها بعدم دفن جثة أبيها، بعد أن أصدر أمره بإعدامه، بعد أن اتهمه بالخيانة، فقامت أنتيغون بدفنه.

واقتادها الجنود إلى الملك الذي بادرها بسؤال: ألا تعلمين أنني أصدرت قانوناً يحظر على أي فرد أن يدفن جثة أبيكِ؟ فأجابته: بلى، فسألها، وكيف تخالفين قانوناً أصدره الملك؟ ألا تخشين ما سأنزله بك من عقاب؟!

أجابت أنتيغون: نعم لا أخشى قانونك، لأن هناك قانوناً أسمى بكثير منه، هو قانون العدل، هو قانون قديم وأزلي لا يتبدل ولا يتعدل ولا يتغير لأنه قانون السماء، ولقيت أنتيغون مصيرها المحتوم وهو الموت دفاعاً عما تعتقده حقاً وعدلاً، هو حق الإنسان بأن يكرم بعد موته بدفنه.

روح الأسرة في إمارة الإنسانية

ولا أجد ما أختتم به هذا المقال سوى أن أذكِّر بما جاء في المذكرة التفسيرية للدستور الكويتي في تصويرها لنظام الحكم بما امتاز به الناس في هذا البلد عبر القرون، بروح الأسرة تربط بينهم كافة، حكاماً ومحكومين. ولم ينل من هذه الحقيقة ذات الأصالة العربية، ما خلفته القرون المتعاقبة في معظم الدول الأخرى من أوضاع مبتدعة ومراسم شكلية باعدت بين حاكم ومحكوم.

والمذكرة التفسيرية عندما تتحدث عن الناس تجمع بين المواطنين والمقيمين، فهم جميعاً نسيج هذا المجتمع وأداته في التنمية الشاملة المستدامة، سواء المواطن أو المقيم، والدستور الكويتي إنما جاء وثيقة تقدمية لحقوق الإنسان، المقيم على هذه الأرض الطيبة إمارة الإنسانية.