حاولت في أكثر من مرة أن أرتب زيارة للكويت في فبراير، وكنت أفشل في مواجهة هذا الشهر، خصوصاً في نهايته، كان آخر عيد وطني حضرته قبل عقد ونصف من الزمن، وكنت يومها أفكر فيما ستنتهي إليه أموري، لم أستطع الخروج إلى الشارع، ولم أكن أعرف كيف أفتعل الفرح بوطن لم يمنحني فرصة الاحتفاء به. لم أحمل علماً ألوح به، ولم أمتلك بيتاً أرفع علماً عليه، وأنا أبحث عن العيش في مكان آخر هارباً من تاريخي وأعيادي وعيون الناس في الشارع، وسيكون خروجي للاحتفاء بالعيد جدلاً بيني وبين نفسي، تهزم فيه عقلانيتي مشاعري. جلست أتابع التلفزيون وأسمع جلبة الناس في الشارع حتى غلبني النوم ونمت.

Ad

منذ التحرير الأول، وهو اليوم التابع للعيد الوطني، تغير كل شيء، أصبحت نبرة التقسيم واضحة ومزعجة. وأنا في المعسكر الآخر، المعسكر المنبوذ والمغلوب على أمره. وعلي أن أتعايش مع واقع كنت أعرفه وأتجاهله كشيء ناقص عن الحاجة ويمكن العيش دونه. لكن هذا الشيء الناقص تحوّل شيئاً فشيئاً إلى عبء على ظهري يحني هامتي، ويقلق راحتي، وأراه وحدي يكبر ويتمدد حتى يسقطني أرضاً. كنت أعالج هذا النقص بالكتابة لأتخلص منه، ولكن القلم كان أثقل من قدرة أصابعي. حين يكبر الألم يتوقف القلم عن الكتابة. ولكي أكتب كان علي أن أبتعد عن هذا العبء، ولم يكن ذلك ممكناً.

لم يسقط عني هذا العبء إلا بعد أن اجتزت الخط الأخضر لمفتش الجمارك الكندي "مرحباً بك يا سيدي" كان يقول. حينها فقط مددت يدي إلى ظهري ولم أتحسس سوى خفتي تلهو على كتفي. ورغم ذلك لم أستطع يوماً ما من فبراير وفي الخامس والعشرين منه تحديداً أن أزور الكويت. كنت خائفاً من ذاكرتي ومن الوجوه التي هجرتها أو هجرتني، ومن شارع الخليج العربي، ومن صوت شادي الخليج وسناء الخراز، ومن مسيرة أصدقاء كلية الهندسة التي تتكرر كل عام، ومن العلم الذي تحتفظ به والدتي وترفعه يوماً واحداً ثم تعيده إلى خزانتها، ونحن نتندر عليها دون أن تغضب.  

اليوم سأزور الكويت في فبراير، وسأحاول مرة أخرى أن أعيش أيامي الخاصة بي، سأمنح نفسي فرصة أخرى أحاول أن أرتب ذاكرتي بطريقة عكسية، أبنيها كأن جميع الأشياء تحدث الآن ابتداءً من هذا الـ"فبراير" الخامس عشر. سأقنع نفسي بأن كل شيء قد سبق هذا اليوم لم يكن. أنا لم أكن هنا، ولم أعرف هذا الشارع من قبل، وأن جميع الوجوه التي سأراها ولدت في غيابي وكبرت في غيابي، وأنا أراها الآن للمرة الأولى.

سأرى فبراير الخامس عشر كسائح يزور البلاد مصادفة في عيدها الوطني، لا يعرف أحداً فيها، ينظر إلى الأمور بمتعة الغريب ونظرته البلهاء إلى فرح البلاد. وإذا فشلت ورأيتني أفرح كما فرحت لأول فبراير في حياتي حينها أعرف أنني فشلت أن أكون شخصاً آخر.