تناولت في الأسابيع الفائتة ومنذ 28 سبتمبر الماضي استقلال القضاء والضمانات التي تحمي هذا الاستقلال، ومنها مبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ سيادة القانون، وأن الأمير يدعم استقلال القضاء والحصانة الذاتية للقاضي التي يصنعها بنفسه، وفي مقال الأحد الماضي عرجت على النصوص التي تحمي القاضي في نزاهته وعدله، واستعرضت فيها.

Ad

أولا رقابة الرأي العام من خلال علانية الجلسات التي نص عليها الدستور والقانون، وتسبيب الأحكام ونقد أحكام القضاء التي نص عليهما القانون، وإن كان حق النقد مستمداً من الدستور ذاته الذي نص على علانية الجلسات، وأن الأمة مصدر السلطات جميعا.

ومن هذه النصوص أيضا ما ينص عليه القانون من:

ثانياً- وفير الحياة الكريمة للقاضي:

ولئن كانت استقامة القاضي وسلوكه القديم، وحسن اختياره، هما الركن الركين في نزاهته وعدله، وعماد صلابته في إقامة العدل، وأن من صفات القاضي التنزه عن طلب الحوائج، ولو كانت في عرف الناس من الأمور التي لا تخدش الكرامة ولا تمسها بسوء، إلا أنها في حق القضاة منقصة ومظنة تهمة وشبهة، لذلك حث الفقه الإسلامي القضاة على التنزه عن هذا الطلب، وحث كذلك الحكام على جزل العطاء للقاضي، وقد روي عن سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه كتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح، عندما ولاهما على الشام، أن يوسعا على القضاة وأن يكفوهم من مال الله، ليكون لهم قوة وعليهم حجة.

 وأوصى سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في رسالته إلى الأشتر النخعي أن يفسح للقاضي في البذل ما يزيل علته وتقلّ معه حاجته إلى الناس، وأساس ذلك أن خطورة الرسالة التي يضطلع بها القضاة تفرض عليهم من القيود على حياتهم الشخصية والاجتماعية نمطا من السلوك الاجتماعي، ليبقيهم بعيداً عن المؤثرات ويعصمهم من الشبهات.

ومن القصص التي تروى في هذا السياق، أن قاضيا مصريا ذهب إلى وزير العدل في الأربعينيات يخبره بأنه رفض في إحدى القضايا رشوة كبيرة عرضت عليه، واستمع إليه الوزير وأطرق ثم طلب منه أن يقدم استقالته، فدهش القاضي وأعاد على مسامع الوزير أنه لم يقبل الرشوة، فأعاد الوزير الطلب من القاضي الاستقالة، قائلاً له لكن كان بك وفي سلوكك ضعف، جعل الراشي يطمع في حيفك وفي ميلك عن الحق وفي انحرافك عن العدل.

لذلك تحرص الدولة كلها على أن جزل العطاء للقضاة بتوفير الحياة الكريمة لهم؛ حتى ينصرفوا إلى عملهم ويضطلعوا برسالتهم السامية، وينهضوا بتبعاتها بثقة واطمئنان، فالقاضي في سعيه إلى مسكن لائق يؤويه وارتباطه بزوجة تصون سمعته، وتوفير متطلبات تعليم أولاده وأزواجهم، ومواجهة ضغوط الحياة، يحتاج إلى أن توفر له الدولة من الدخل ما يكفيه العوز والحاجة، وإذا وهن العظم واشتعل الرأس شيباً فهو في حاجة إلى معاش تقاعدي يحفظ عليه كرامته وتوقيره بين الناس.

وغنيّ عن البيان أن توفير الحياة الكريمة للقضاة يستهدف في المقام الأول حماية العدالة، وليس تحويل القضاة إلى طبقة متميزة عن سائر موظفي الدولة.

ثالثا- تعدد درجات التقاضي:

وهي ضمانة جوهرية من ضمانات التقاضي لدرء الخطأ الذي يقع فيه القضاة، وهم من البشر، وقد استشهدنا في المقال السابق بحديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو سيد البشر، وهو يقول في ولايته للقضاء بين الناس أنه يصيب ويخطئ مثل سائر البشر.

وهي ليست ضمانة لأطراف الخصومة وحدهم، بل هي ضمانة لحسن سير العدالة وحمايتها، بأن يباح لهؤلاء الأطراف استئناف الحكم أمام محكمة أعلى درجة والطعن في الأحكام لمخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه أمام محكمة التمييز، ولو كان الحكم حائزاً لقوة لشيء المحكوم فيه.

ولا ريب في أن طرح النزاع أمام محكمة أعلى درجة، له من تعدد أعضائها وخبراتهم ما يتيح لها، وهي تعيد الفصل في النزاع، أن يكون حكمها أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ، وقد سبقتها إلى بحث النزاع والفصل فيه المحكمة التي أصدرت الحكم المستأنف، بما يجعلها أقدر على تلافي الخطأ الذي وقعت فيه هذه المحكمة، وقد استكمل أطراف الخصومة ما فاتهم من دفاع أمام محكمة أول درجة، وتناولوا في دفاعهم ما ورد في أسباب الحكم من فساد في الاستدلال أو خطأ في تطبيق القانون، فضلا عما يحققه التقاضي على درجتين من توفير رقابة على محكمة أول درجة، بما يجعلهم أحرص على توخي العناية في أعمالهم والالتزام بالعدال في أحكامهم.

ولا ينال من هذه الضمانة، أن المحكمة الدستورية قضت بأن التقاضي على درجتين رهنٌ بإرادة المشرع، وأن قصر التقاضي على درجة واحدة في بعض المنازعات لا يخالف الدستور (الحكم الصادر بجلسة 22/3/1976 في الطعن رقم 1 لسنة 75 دستوري)، كما قضت بأن قصر الطعن بالتمييز على الأحكام الصادرة في الجنايات والجنح ليس فيه انتقاص من حق التقاضي أو إخلال بمبدأ العدالة المنصوص عليهما في الدستور (الحكم الصادر بجلسة 24/10/1987 في الطعن رقم 2 لسنة 87 دستوري)، ذلك أن هذه الضمانة تبقى رهنا بتقدير المشرع للحالات التي يتدخل فيها فيبيح التقاضي على درجتين أو يمنع الطعن بالتمييز في بعض الأحكام؛ باعتبار أن هذا الطعن طريق استثنائي كما قضى الحكم الأخير.

رابعاً- القاضي الطبيعي:

ومن الضمانات الجوهرية لحماية العدالة ألا يختار الخصم، الذي يتداعى إلى القضاء للمطالبة بحقه، القاضي الذي يفصل في النزاع بينه وبين أطراف الخصومة الآخرين، كذلك فإنه من ضمانات المحاكمة العادلة المنصفة وجوب محاكمة المتهم أمام القاضي الطبيعي، وهي ضمانة ليست للمتهم وحده بل للمجني عليه أيضاً، لأن لهما حقوقا متساوية أمام القضاء، وقد استقرت هذه الضمانة فى الضمير الإنساني لحماية العدالة بعد محاكمات ظالمة جائرة عبر التاريخ، لم يكن هناك ما يمنع فيها من أن يضم تشكيل المحكمة أفراداً أبدوا رأيهم مسبقاً بإدانة المتهم، أو استنكروا الفعل الذي اتهم بارتكابه، بل كانوا أول من يقع عليهم الاختيار، لأن الأحكام كانت تصدر قبل المحاكمة.

وإلى مقال قادم، نتناول فيه، كيف يحمي القانون القاضي من نفسه، بتقرير نظام التنحي ورد القضاة وعدم صلاحيتهم للحكم، ومخاصمتهم، وبطلان الأحكام التي تصدر في الحالات التي نص القانون عليها في التنحي والرد وعدم الصلاحية.