اتضحت المكاسب المحتملة من إعادة توجيه السياسة الخارجية الأميركية نحو منطقة المحيط الهادئ الآسيوية في نوفمبر، فبعد زيارة ناجحة لمنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ في الصين، عرّج الرئيس الأميركي باراك أوباما على ميانمار ليعزز بنجاح عملية انتقال السلطة السياسية فيها، قبل أن ينهي جولته باجتماع مثمر لمجموعة الدول العشرين في بريزبن.

Ad

ولكن في الشرق الأوسط حيث تتفاقم المخاطر مع كل أسبوع يمر، اصطدمت الولايات المتحدة، على ما يبدو، بعقبات كبيرة، ولا نرى أي إجماع واضح حول كيفية المضي قدماً بشأنها.

لنتأمل المحادثات النووية الإيرانية، التي مُددت مرة إضافية حتى يونيو 2015، فلاشك أن تمديد مهلة التوصل إلى اتفاق نهائي نتيجة جيدة، فيجب ألا تذهب جهود المفاوضين سدى، علاوة على ذلك، بفضل الاتفاق المؤقت الذي جرى التوصل إليه قبل سنة، مازال برنامج إيران النووي خاضعاً لبعض الضوابط (مع حصول إيران على تخفيف محدود للعقوبات في المقابل).

تأخير «التفلت»

أقرت كل الأطراف بالتقدم نحو التخلص من قدرة إيران على تحقيق «التفلت» النووي، ما يتيح لها البدء بإنتاج الأسلحة في غضون سنة، ويبدو هدف تأخير عملية التفلت هذه، الذي يعتمد إلى حد كبير على الحسابات الرياضية، والتقنية، والسياسية، في متناول اليد.

ولكن في واشنطن، لا نرى حماسة كبيرة تجاه المضي قدماً في المسألة الإيرانية، وليست هذه المرة الأولى في الدبلوماسية الدولية التي لا يلقى فيها ما يعتبره المشاركون في عملية التفاوض أمراً مرغوباً فيه وممكناً، الترحيب ممن يمسكون بزمام السلطة، وفي المسألة الإيرانية، ثمة أسباب ثلاثة تعلل ذلك:

أولاً، لا يشكل منع إيران من تحقيق التفلت النووي (مع أنه هدف يستحق العناء) ما يعتبره السياسيون والمحللون بالضرورة انتصاراً واضحاً، وعلى العكس، تملك إيران اليوم على الأرجح المعرفة الكافية لبناء قنبلة، وباستثناء جمع كل العلماء في هذا البلد ونفيهم إلى جزيرة مقفرة، من الصعوبة بمكان التوصل عبر المفاوضات إلى ظروف لا يستطيع فيها بلد مثل إيران أن ينتج قنبلة.

ثانياً، أدت العقوبات إلى تعزيز الدعم الذي ينعم به النظام مع ميل إلى المبالغة في تصوير نجاحاته وإمكاناته، فقد أظهرت دراسات أكاديمية كثيرة أن معدل نجاح العقوبات محدود، حتى إننا بتنا ندرك اليوم أن العقوبات التي فُرضت على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا عاقت على الأرجح عملية الانتقال إلى حكم الأكثرية. وبما أن عمليات التصفية التي تقوم بها الشركات المتعددة الجنسيات تؤدي غالباً إلى بيع المنشآت الصناعية بأسعار منخفضة جداً، فقد تكون العقوبات قد مكّنت العناصر الرجعية وأغنتها، محققة القليل لتحفيز التغيير الاجتماعي.

يعتقد مسؤولون أميركيون كثر اليوم أن انتخاب حكومة إيرانية جديدة هدفها التخلص من وطأة العقوبات الغربية يشكل دليلاً على أن هذه العقوبات ناجحة، بغض النظر عن أن غياب دليل مماثل كان سيثير الدعوات المطالبة بعقوبات إضافية.

لكن تفاعلات العقوبات معقدة. فكما أظهرت حروب البلقان في تسعينيات القرن الماضي، تؤدي العقوبات غالباً إلى الانتقال من تجارة مشروعة إلى تجارة غير مشروعة، وفي البلقان مكّن هذا عناصر المافيا، وساهم أحياناً في اتحادها مع المؤسسات والأحزاب السياسية، وبرز نمط مماثل في إيران أيضاً، فقد دفعت العقوبات الغربية حرس الثورة مع كل نشاطاته الاقتصادية المشبوهة إلى عالم الجريمة المنظمة.

يُعتبر الإيرانيون، الذين يرغب معظمهم في رؤية نهاية العقوبات، الأكثر تضرراً منها لا الأكثر استفادةً، لكن مَن يعانون جراء العقوبات لا يواجهون المصاعب الاقتصادية فحسب، فقد أساءت العزلة التي فرضتها العقوبات إلى العناصر المنوَّرة في إيران، فلا يأبه حرس الثورة ما إذا كان يحظى برضا المجتمع الدولي أو لا.

تعقيدات المنطقة

أما السبب الثالث وراء هذا الجمود في سياسة الشرق الأوسط الأميركية، فينبع من تعقيدات سياسات هذه المنطقة التي تزداد طائفية، فقد سمعنا الكثير أخيراً عن تقارب في المصالح الأميركية والإيرانية في الشرق الأوسط الأوسع، فالإيرانيون هم مَن أرادوا دولة عراقية مستقرة ومزدهرة بعد عهد صدام، ودعموا نظاماً غير موالٍ لطالبان هناك. والإيرانيون هم مَن يؤيدون حواراً لتشاطر السلطة سلمياً في سورية.

لكن إيران أججت أيضاً الطائفية في المنطقة، فبدعمها القوات الشيعية خارج حدودها (وخصوصاً حزب الله في لبنان ونظام الأقلية العلوية التابع للرئيس السوري بشار الأسد في سورية، فضلاً عن عدد من أسوأ الميليشيات الشيعية في العراق)، دفعت بالعالم العربي إلى النهوض لمواجهتها وتمكين الفئة المتطرفة من العرب السنة، لا شك أن يدي إيران ملطختان بالدماء الأميركية والسنية، وبتهور مماثل، نافست إيران الدول العربية السنية في السباق المناهض لإسرائيل.

أدركت الولايات المتحدة أهمية هذه المسائل وسعت إلى التحكم فيها من خلال عمليات تفاوض أخرى، لكن استراتيجية «التحاوز والتقسيم» (compartmentalization) تتطلب التركيز والقوة من واضعي السياسيات، فمهمتهم لن تكون سهلة، وربما تكون استدارة أوباما الناجحة نحو شرق آسيا مصدر إلهام لهم.