مع إعلان إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عن الاحتفال بمئوية ميلاد المخرج الكبير هنري بركات (11 يونيو 1914 - 23 فبراير 1997) وجدتني مدفوعاً للعودة إلى الإرث السينمائي الذي تركه لنا، ولم أعرف لماذا توقفت عند فيلمه الشهير {في بيتنا رجل} (1961) المأخوذ عن قصة للأديب الكبير إحسان عبد القدوس كتب لها السيناريو بركات ويوسف عيسى، الذي صاغ الحوار بمفرده، لكن ما يمكن قوله إن هذا الفيلم غير، بحق، مفهوم {الفيلم السياسي}!

Ad

نحن مع قصة المناضل السياسي «إبراهيم حمدي» (عمر الشريف) الذي يثأر لشرف الوطن، الذي أريق على يد الإنكليز والقصر والعملاء، في الفترة التي سبقت قيام ثورة 23 يوليو 1952، فيقرر اغتيال رئيس الوزراء العميل للإنكليز، ويتم القبض عليه وتعذيبه، وينتهز فرصة دخوله المستشفى للعلاج من آثار التعذيب فيهرب، غير أن الفيلم يبتعد عن شكل «الفيلم السياسي»، الذي يغرق في طوفان القضية التي يتبناها، ويدافع عنها باستماتة، ما يعرضه للاتهام بالخطابة والمباشرة، ويبدو بركات وكأنه يضع قواعد جديدة لما يُمكن تسميته «الفيلم الوطني»؛ فالشاعرية التي اشتهر بها لا تفارقه حتى وهو يصنع المشاهد الأولى للفيلم؛ حيث يستعين بلوحات تشكيلية تحكي في عجالة تاريخ مصر، التي ترزح تحت نير الاحتلال، قرابة سبعين عاماً، ونرى في اللوحات كيف كان يتعرض المصريون للإذلال والإهانة، ونشاهد الزعيم الراحل أحمد عرابي وهو يقود تظاهرته ضد «الخديو توفيق»، ثم تظاهرات الطلبة فوق كوبري عباس، التي صنع منها بركات ملحمة على الشاشة لم تستثمرها السينما المصرية حتى يومنا هذا؛ فاللقطات القريبة والعامة، والمواجهة الشرسة بين الطلبة العُزل والجنود المدججين بالهراوات والمحتمين بالخوذات، واضطرار الطلبة إلى إلقاء أنفسهم في نهر النيل هرباً من الضرب المبرح، والقرار الأرعن بفتح كوبري عباس، تحولت على يده، ومدير التصوير وديد سري، إلى مشاهد حية لا يستطيع الباحث المتخصص التفريق بينها وبين المشاهد الواقعية، التي جرت أحداثها في 13 نوفمبر عام 1935!

 في اللقطة الأولى من فيلم {في بيتنا رجل} تتصدر قبة جامعة القاهرة المشهد، وكأن {بركات} يراهن على جيل بأكمله يثق في أنه حامل لواء الثورة، مثلما يرى أن الجامعة هي منبع الشعور القومي للأمة، والمحرر لها من نير المحتل الغاصب، وبالشاعرية نفسها يمضي في طريقه؛ حيث يتشبث بالتوقيت الذي اختاره {إحسان عبد القدوس} في روايته (أحد أيام شهر رمضان... والساعة الخامسة مساء، قبل الإفطار بساعة ونصف الساعة). ومجدداً تأتي سيرة أحمد عرابي عندما يكتب البطل {إبراهيم حمدي} رسالة إلى والده يؤكد له فيها أنه مُقدم على عمل بوحي من ضميره... {من أجل مصر ومن أجل كل أم مصرية تريد أن تكون أماً لأحرار لا أماً لعبيد}، وهنا لا تملك سوى تذكر المقولة الخالدة للزعيم أحمد عرابي: {لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم}. ثم يأتي توظيف مدفع رمضان، الذي ينطلق في أول الفيلم، وكأنه يحمل الكثير من الحمم والبراكين والغضب الدفين المعتمل في نفوس المصريين. وبنفس {الرومانسية} يتناول المخرج قضية على درجة كبيرة من الخطورة والتعقيد، وأعني بها ظاهرة {الاغتيال السياسي}؛ فها هو ينحاز إلى بطله في موقفه المدافع عن حرية الوطن، ويحشد الأسلحة التي تقود إلى التعاطف معه، بداية من اختيار عمر الشريف بملامحه ذات الخصوصية، وشعبيته، ووسامته الملحوظة، ورصد التحول الخطير الذي اعترى عائلة مصرية، كعشرات العائلات التي لم تقرب السياسة يوماً، ولم ينخرط أحد من أبنائها في تظاهرة، إلا أن الحس الوطني يفرض عليها أن تبدل قناعاتها!

وثّق بركات أجواء شهر رمضان وطقوسه، وكما صوّر المدفع الشهير، قدم، بشكل خاطف، لقطة لطفلتين تحملان فانوس رمضان بينما تتردد عبر شريط الصوت الأغنية الشهيرة {وحوي يا وحوي}، وبالرؤية الناعمة نفسها رصد أجواء القهر والتعذيب، والممارسات المنحرفة للبوليس السياسي. وتبعاً لطبيعته المتوازنة لم يلجأ إلى اتهامات التخوين، وكما قدم شخصية {الدباغ} ضابط البوليس السياسي، الذي باع نفسه، ثمَن الدور الذي أداه {عبد الحميد}، عندما رفض المكافأة الضخمة التي رصدتها الحكومة لمن يدلها على الهارب، وهو أحوج الناس إليها. ومع نهاية الأحداث يكشف بركات  عن وجه ثوري خالص عندما يجعل {البطل} يصرف النظر عن قرار السفر إلى فرنسا هرباً من الملاحقة الأمنية، ويتشبث بالبقاء داخل الوطن ليواصل كفاحه ضد المحتل. ويُنهي بركات الفيلم بعبارة تقول: {من استشهد في سبيل بلاده لم يمت.. والحرية أغلى من الحياة}... وبدلاً من كلمة {النهاية} يكتب على الشاشة {كانت هذه هي البداية}.