التعليم الجديد في الصين ... المُثل العليا أساس العلم

صدر عن {مؤسّسة الفكر العربي} في بيروت كتاب جديد بعنوان {التعليم الجديد في الصين} بقلم تشو يونغ شين. من خلال 13 فصلاً، يعرض المؤلف نظرية تربوية، غايتها بناء حياة تعليمية جيدة تستند إلى المُثل العليا، انطلاقاً من أن إنجازات الإنسان لا تكون عظيمة، إلا إذا كانت تحفّزها مُثُل سامية.

في كتابه {التعليم الجديد في الصين}، يوضح تشو يونغ شين أن التعليم مشروع لنشر المُثل وبناء الإنسان عبرها، مشروع يطمح إلى أن تكون الحياة التعليمية حياة سعيدة، وإلّا فقَدَ التعليم معناه وضرورته.

فتحت النظرية الباب أمام تفاعل بنّاء بين تجربة التعليم الجديد العملية، وبين نظرية المثل العليا في التعليم. تستبطن التجربة الخصوصية الثقافية الصينية، التاريخية والحضارية، وتتضمن تعاليم فيلسوف الصين كونفوشيوس، القائل بأن الإنسان الفاضل هو من يفضّل الأخلاق على المال، وأن تحقيق المساواة أهمّ من الاهتمام بنقص المؤن، والقلق من عدم الاستقرار أهمّ من القلق من الفقر، والميل إلى الحياة الآمنة المسالمة أهمّ من الميل الى الكسب المادي. إضافة إلى ذلك، لم تخفِ تجربة التعليم هذه إفادتها من النظريات التربوية الغربية، خصوصاً تلك التوّاقة إلى بناء الإنسان بناءً متكاملاً متوازناً، يوائم بين أبعاده الروحية والعقلية والمادية كافة.

تضع التربية الصينية والأساليب التي يعرضها كتاب {التعليم الجديد في الصين}، المُثل المنسيّة في المقام الأول، تقلب هرم التربية والتعليم، وتصحّح وضعه على قاعدته، بعدما كان التعليم الغربي يتّجه نحو قلبه رأساً على عقب. النظريات التربوية الغربية ليست واحدة، وليست على نهج واحد ولا في اتجاه واحد، بل تتناقض الخلفيات الفلسفية لهذه النظريات تماماً؛ فبعضها يسعى إلى بناء الإنسان بناءً متكاملاً متوازناً يوائم بين أبعاده الروحية والعقلية والمادية كافة، خلافاً للفلسفات التربوية والتعليمية التي ترجّح الجانب المادي الاقتصادي لعملية التعليم، ولا تلتفت إلّا إلى ما يُنمّي المعارف والخبرات التي تستجيب أفضل استجابة لمتطلبات العمل، وفق ما تقتضيه ضرورات السوق الليبرالية الجديدة واحتياجاتها. تشحذ روح المنافسة والمنفعة الفردية التي تبتغي توسّل السبل المؤدية إلى النجاح في العمل، بصرف النظر عن مرتكزات العمل الأخلاقية أو المعنوية والروحية، وذلك على قاعدة تثير الانقسام بين الناس: {الغاية تبرّر الواسطة، بعدما أصبح محرّك الحضارة الحديثة، السعي بالوسائل كافة إلى الكسب المادي، بما في ذلك وسيلة التعليم والتربية على حساب الأخلاق، وهو ما عبّر عنه الأديب الفرنسي فرنسوا رابليه منذ بداية الاكتشافات العلمية الحديثة في القرن السادس عشر، بقوله الشهير {علمٌ من دون وازع دمارٌ للروح».

قاطرة الاقتصاد

يُبرز الكتاب تراجع الاهتمام بالمثل العليا الأخلاقية إلى المقام الثاني، إذ أصبح همّ التربية والتعليم السوق الاقتصادية، وربط التعليم بالاقتصاد، وتحقيق أكبر قدر من الأرباح بأقلّ مقدار من الوقت. من هنا، أصبحت النظريات التربوية الغربية غير متجانسة، بل يذهب بعضها مثل المناهج التعليمية التي أطلقها إيفان إليتش في فرنسا، وانتقلت منها إلى بلدان أوروبية أخرى، في عكس الاتجاه التربوي والتعليمي السائد، ويلتقي مع الاتجاهات التعليمية في الصين.

ويستعرض الكتاب نوعاً آخر من التعليم لا يقلّ أهميّة عن تعليم القراءة والحساب، ويشكّل حلقات متداخلة في تجربة التعليم الجديد في الصين أيضاً، ليس أقلّها الطبيعة والفنون والكتابة، خصوصاً كتابة اليوميات وغيرها الكثير من الأمور، التي تغني الحياة الروحيّة للتلامذة. ففي المدارس الصينية الجديدة مثلاً، مدارس تجربة التعليم الجديد، {تضوع الروح الفنّية في كلّ تلميذ، فبعضهم يعزف على آلة موسيقية، ويبرع آخرون في فنّ الخط، أو في الرقص، أو في الرسم؛ يوجد بينهم مَن يقترب من كبار الرسامين الصينيّين أو الفنانين الأجانب ويوجد من ينتشي بالألحان الصينية التقليدية ومن يمكنه أن يتمتّع بالأوبرات الصينيّة التقليدية}، لكن ذلك كلّه بحسب المؤلّف لا يكون من أجل أن يصبح كلّ تلميذ فناناً، بل ليصبح شخصاً يعرف كيف يتمتّع بالفنّ ويحب الفنّ ويحترم الفنّ. فمتى استطاع الشخص أن يجعل الفنّ يرافقه طوال حياته، أصبح بالتأكيد إنساناً يتمتّع بثراء روحي كبير.

لا تبالي تجربة التعليم الجديد بدرجات الامتحان بقدر اهتمامها بأصول السلوك الشخصي والأخلاق، لأجل رسالة التعليم المتمثّلة في تشكيل الطبيعة الإنسانية الحميدة، وبناء مجتمع فاضل. تجربة تقوم على أن تاريخ النموّ الروحي للإنسان هو تاريخ قراءته للكتب، أما غايتها فهي جعل {كلّ تلميذ يملك قلباً حسّاساً، ويحبّ الآخرين بوساطة قراءة الشعر صباحاً، ومطالعة الكتب ظهراً، ومراجعة الذات مساء، ورسم خارطة عالم روحه من جديد».

تدعو تجربة التعليم الجديد إلى البحث العلمي العملي، والبحث بالعمل وبطبيعة المدرسة، وهذا أسلوب جديد للبحث العلمي ولإدارة المدرسة، على اعتبار أن مسيرة تطوّر تجربة التعليم الجديد هي مسيرة تطوّر المدرسة، انطلاقاً من الصفّ كمسرح التعليم الأساس.

صدر الكتاب ضمن سلسلة {حضارة واحدة}، وهي عبارة عن كتب تُصدرها المؤسّسة، وتُعنى بترجمة أمّهات الكتب الفكرية نقلاً عن لغات العالم الحيّة، بهدف انفتاح الفكر العربي على النتاج الفكري العالمي، وانطلاقاً من اهتمام المؤسّسة بمختلف المعارف والعلوم ذات الأهداف والموضوعات المتنوّعة، لإفادة أوسع شريحة من القرّاء في الوطن العربي.