القديس... والشيطان

نشر في 02-12-2014
آخر تحديث 02-12-2014 | 00:01
 يوسف عبدالله العنيزي في شهر يناير عام 1980 صدر قرار كريم بنقلي من مدينة الرياض العزيزة للعمل في سفارة دولة الكويت في جمهورية اليونان الصديقة، حيث قضيت ما يناهز الأربع سنوات، تميزت السنتان الأوليان بالهدوء والأمان، مما أتاح لنا فرصة التنقل في ذلك البلد الجميل بين شواطئ جزر خلابة إلى جبال تكسوها الثلوج، مروراً بمروج خضراء، تزدهر بالكثير من أنواع الفواكه.

 في نهاية عام 1983 بدأت الأمور في أثينا تأخذ منحى آخر، فقد سيطرعليها الإرهاب وأنشب مخالبه بهذه المدينة الرائعة، فشهدت الكثير من التفجيرات والاغتيالات والسيارات المفخخة في الفترة التي عرفت "بحرب أجهزة المخابرات العربية"، وكانت أثينا ساحة لها، وللأسف الشديد لم تكن سفاراتنا وأعضاء البعثات الدبلوماسية بمأمن من ذلك الإرهاب البغيض الذي طال بعض شبابنا المشهود لهم بدماثة الخلق والإخلاص لوطنهم، فقد تم اغتيال الأخ العزيز نجيب الرفاعي في مدينة مدريد بتاريخ 16/9/1982، كما تم اغتيال الأخ العزيز مصطفى المرزوق في مدينة نيودلهي بتاريخ 4/6/1982 ندعو لهما بالرحمة والمغفرة، وأن يسكنهما الرحمن واسع جناته، بينما نجا من محاولة الاغتيال الأخ العزيز السفير حمد الجطيلي في مدينة كراتشي وذلك بتاريخ 16/9/1982.

نظراً إلى تلك الأوضاع الأمنية القاسية في مدينة أثينا، قامت وزارة الخارجية مشكورة بتزويدنا بسترات واقية كنا نلبسها باستمرار، إضافة إلى تزويدنا بمسدسات شخصية من نوع "كولت colt"، كما قامت إدارة حماية الشخصيات، وكانت بإدارة الأخ العزيز عبدالله المسعود، بإرسال عدد من أفراد الإدارة، منهم الأخ الفاضل عبدالعزيز الدغيشم والأخ الفاضل عبدالعزيز المنيخ، وذلك لحماية السفير والسفارة وأعضائها، وقد صدرت لنا الأوامر بإعادة عائلاتنا إلى البلاد.

وعلى الرغم من هذه المخاطر فإن شباب الكويت ورجالها من أعضاء السلك الدبلوماسي لم يثنهم ذلك عن أداء واجبهم تجاه وطنهم الغالي، كانت حياة غاية في الصعوبة، وكنا نعيش في خوف ورعب دائمين، فقد تم تفجير سيارة القائم بالأعمال السعودي الذي نجا من هذه المحاولة بقدرة إلهية، وتم اغتيال عدد من الدبلوماسيين العرب وتفجير بعض السيارات التابعة للسفارات العربية، ولن أنسى تلك الليلة عندما تلقينا اتصالاً من وزارة الخارجية في الكويت بضرورة مغادرة أثينا حالاً، وكانت الساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل، وعليه فقد قمت بالمرور على سعادة السفير صالح المحمد (رحمه الله) في منزله، وتوجهنا إلى مطار أثينا حيث غادر إلى لندن. أنا على يقين بأن القارئ قد بدأ يتساءل: أين القديس؟ وأين الشيطان؟ أين العنوان... فأرجو المعذرة فقد غصت في لجة الذكريات.

من الأماكن الجميلة التي قمت بزيارتها إحدى القرى الصغيرة التي تقع في حضن أحد الجبال، وتبعد عن مدينة أثينا حوالي 200 كم، وتدعى قرية "القديس ياني"، في وسط القرية أقيمت كنيسة صغيرة رائعة التصميم، مطلية بالجص الأبيض، والنوافذ مغطاة بالزجاج الملون المنقوش بالرسوم والزخرفة، عند مدخل الكنيسة وقف طابور من الناس مختلفي الأعمار من رجال ونساء وأطفال، دخلت معهم فوجدت هذا الجمع يطوف حول صندوق من الزجاج، ومسجى بداخله رجل بكل ملابسه الدينية الكهنوتية، ما عدا منطقة الصدر التي بدت مفتوحة، ويظهر من خلالها جميع الأعضاء ما عدا القلب الذي انتزع من مكانه. أثار ذلك فضولي وحرك مكمن "بلاغة الشف" التي يتميز بها الشعب الكويتي، فذهبت إلى رجل من رجال الكنيسة جالس في أحد أركانها، ألقيت عليه التحية فردّ بأحسن منها، استفسرت منه إن كان بإمكاني معرفة سر انتزاع القلب من صدر ذلك القديس، وما السر الكامن وراء هذا الجمع الذي يطوف حوله؟ بدأ الرجل حديثه، قائلاً: إنها ليست قصة تحكى، ولكنها أسطورة تروى، فيقال بأن أهل هذه القرية كانوا من أهل الخطايا وارتكاب المعاصي، فأصابها نقص من الأموال والأنفس والثمرات، فعانوا ضنك الحياة، حتى جاء إلى هذه القرية قديس يدعى "ياني"، فقام بدعوة الناس إلى ترك المعاصي والاتجاه إلى طاعة الرب. في بداية الأمر لاقى "القديس ياني" معارضة واستهزاءً، ولكنه لم ييأس واستمر في دعوته حتى استجاب له أهل القرية، وعندها بدأت الحياة في التغيير فهطلت الأمطار وازدهرت الروابي، وعمّ الخير أرجاء القرية، دعا "القديس ياني" أهل القرية إلى بناء هذه الكنيسة فلبى الجميع الدعوة.

عز على الشيطان أن يرى أهل القرية، وقد ابتعدوا عن طريق المعاصي واتجهوا إلى طريق الصلاح، فتمثل بصورة رجل وقور، وبدأ ينشر بين الناس أن القديس "ياني" مريض وقد طعن في السن، وهو على وشك الرحيل من الدنيا، وعندها سيعود أهل القرية إلى طريق المعاصي، وأن الحل الوحيد لدرء هذا الخطر هو قتل القديس وانتزاع قلبه لعمل حساء يتذوقه أهل القرية ليسري في أجسادهم حب الخير الذي يسري في قلب القديس، بالطبع لم يتقبل أهل القرية هذه الفكرة، ولكن مع مرور الوقت ووسوسة الشيطان تم قبول الفكرة وقاموا بقتل القديس، بعدها بحثوا عن الرجل الوقور فلم يجدوا له أثر، فأدرك الجميع أنهم وقعوا في شرك الشيطان، وتكفيراً عن ذنبهم قاموا بتحنيط الجثمان الذي تراه مسجى في ذلك الصندوق وأصبحت زيارته والطواف حوله عادة تتوارثها الأجيال.

أنهى الرجل تلك الأسطورة التي تعبر عن الصراع الأزلي بين الخير والشر والذي سيستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

دعاؤنا إلى العلي القدير أن يحفظ الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.

back to top