في مقالٍ سابق حاولنا بعجالة استشراف الوضع الثقافي الراهن في عمومه فيما يتعلق بمفهوم التسامح، قبل الولوج إلى خصوصية الأدب العربي وكيفية تعامله مع مفهوم قيمي على جانب من التعقيد والتشابك مثل "التسامح"، بما يقترحه من معاني التعايش والتجاور وقبول الآخر المختلف.

Ad

ولعل نظرة سريعة إلى حركة التاريخ العربي الإسلامي الذي لا يمكن فصله بأي حال عن حركة الأدب، ترينا مدى المتغيرات السياسية والفكرية والثقافية التي تتابعت على البلاد العربية عبر القرون، منذ أن كان العرب حفنة من القبائل تتناثر في صحراء الجزيرة، إلى أن تاخمت فتوحاتهم وانتشارهم أطراف الصين وتخوم أوروبا.

هذا الحراك التاريخي الزاخر ثقافياً وإيديولوجياً لا يمكن بأي حال أن يتأسس على معايير العنصرية والعرقية الضيّقة والانكفاء على الذات، أو ينغلق على وحدة العقيدة في الفكر والتوجّه والمزاج العام. فالفرد العربي لم يعد فرداً في غزيّة أو قبيلة، ولم تعد تخومه تقف عند نجد أو الربع الخالي، بقدر ما أصبح الفرد جزءاً من كيان ثقافي تختلط فيه الأعراق والأجناس واللغات والعقائد.

ولعل الزخم المعرفي منذ انبثاق الحضارة الإسلامية وامتداداتها المترامية جغرافياً وبشرياً، والمتمثل بازدهار العلوم النظرية والتجريبية، والعكوف على الفلسفة والمنطق والفنون، وحركة الترجمة، والاشتغال الدؤوب بصناعة مفردات الحضارة المادية والفكرية... إلخ، كل هذه العوامل كانت جديرة – آنذاك - بفرض لون من ثقافة التعايش وقبول الاختلافات والمختلفين، واتخاذ موقف التسامح إزاء مفردات هذا الكون الإنساني الزاخر.

ورغم هذه الرؤية الواسعة لمفهوم "التسامح" وعموميتها في الثقافة العربية، يبقى موضوع التمثيل بنماذج ملموسة في الأدب العربي لازمة من لوازم مقالة مثل هذه، إذ لعل الاستئناس بأثر من آثار الشعر أو الرواية أو أي فن آخر من فنون الكتابة الإبداعية يعين على إضاءة الموضوع وتقريبه.

يمكن اعتبار ما جاء في معلقة زهير بن أبي سلمى حول قيم التسامح من أقدم النماذج الشعرية في مقام التمثيل والتأريخ. ويبدو أنه الشاعر الوحيد بين شعراء زمانه ممن أعلى من قيمة التسامح والتعايش في عصر يضج بالاقتتال والصراعات والعصبية القبلية والثارات الدامية، لتأتي معلقته صوتاً مختلفاً وطرحاً مغايراً في بيئة قلما تعاملت مع الأضداد بحكمة ورويّة.

أما فحوى المعلقة فمعروف ومتداول في كتب الأدب، حين جعل زهير بن أبي سلمى من معلقته منشوراً دعائياً يروج لقيم السلام والتسامح، وينفّر من الصدامات والحروب في محاولة لقطع دابر الثارات والإحن. لقد رأى الشاعر في مبادرة اثنين من عقلاء الرجال وسادتهم وهما هرِم بن سنان والحارث بن عوف وسعيهما لإنهاء خلافات وحروب دامت أربعين عاماً بين قبيلتي عبس وذبيان، وهي ما عُرفت بحرب البسوس، رأى في هذا المسعى ما يستحق الإشادة والتوثيق والثناء الجمّ، فكتب معلقته الخالدة يؤرخ لهذا الحدث الفريد في زمن جاهلي لم يعرف غير التعصّب والتحزّب ومناصبة العداء للمختلفين والأضداد. يقول الشاعر مادحاً الصلح ومنفراً من شؤم الخلافات والحروب:

يميناً لنعم السيدان وُجدتما

على كل حالٍ من سحيلٍ ومُبرَمِ

تداركتما عبساً وذبيان بعدما

تفانوا ودقوا بينهم عطر منشمِ

وقد قلتما: إن نُدرك السلم واسعاً

بمالٍ ومعروفٍ من القول نسلمِ

فأصبحُتا منها على خير موطنٍ

بعيدين فيها من عقوقٍ ومأثمِ

وما الحربُ إلا ما علمتم وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرجّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمة

وتَضْرَ إذا ضرّيتموها فتَضرَمِ

****