وجدي عبد الصمد في «أكتبيني بعد» المدمن حبّاً في كوكب يتّسع للغزل وحده، حيث عناقيد الشوق تهطل على إيقاع رنين القُبل: «أدمنتُ عشق الهوى في كوكب الغزلِ/ برشفة من... الشوق والقُبل». وهو الصانع من نهدات الورق مراكب تمضي به نحو جُزرٍ يستعمرها الورد لتغدو معادلةً للفراديس الممتدة على هناءة في ظلال الأزلِ. «هجرتُ نهداتِ أوراقي إلى جُزرٍ/ فيها ورود تحاكي جنّةَ الأزلِ». ويتكثف الحبُّ، ويرتدي صفاءه فيرتقي إلى قراءة المستقبل، ويُري العاشق طيفه ثمرة متدلّية من غصن الغد، ولا يبقى إلا أن تصطاد العين بشبكتها طائر الحلم: «فخلت نفسي كطيفٍ فوق غصن غدي/ هيهات لو تلتقي الأحلام بالمُقَل». وإلى الله يرفع عبد الصمد صوته سائلاً إياه رحمة، لأنه ينتسب إلى الهوى، ولا اكتمال للعمر إلا إذا عانق أشرعة الأهواء، وركض طويلاً ناثراً خطوه على شواطئها. ويستمرُّ الشاعر معتنقاً لغة العطر، مستحضراً الورد الذي لعطره أن يسمو بالعاشق نحو شرفات الانتصار المكلّلة بالسعادة، ونحو أبراجِ الأمل: «بين الورود منبت عطرٌ/ إكليل غارٍ فوحهُ الأملُ»، ويعود الوردُ، الذي لا يغيب، ويطلُّ من خدِّ امرأة، فيقفز الشاعرُ من أعلى ذاكرته إلى ساحاتِ الطفولة عادياً خلف أسراب الأحلامِ: «صحا الوردُ في خدٍّ خجولٍ مورّدِ/ وداعب أحلامي كطفلٍ بمذودِ»، وحينَ يفتح الحبُّ بابه فتحة كاملة يترجّلُ إليه الحبّ عن حصان سمائه قاصداً معبدَ الشاعر طمعاً بالجثوّ فيه.

Ad

ومن قصيدة إلى أخرى، يبدو عبد الصمد أسير قاموس، قليل المفردات، لا يستطيع خلاصاً منه، فكأنَّ لبعض الكلماتِ سلطة مبرمة عليه، فيستجيب لها ويمنحها حقّ الإقامة الدائمة في قصائده. وليست الصورة الشعرية بألف خير دائماً، لأن الشاعر يلوذ بخيال الشعر العربي الكلاسيكي كثيراً فيأخذ مما هو موجود ويحاول التعديل في الصياغة، كما في قوله: «رماح جفنيك حرّاسٌ على هُدب/ وبهاءُ وجهكِ للأفلاك منتسب»... غير أنه في كثير من المواضع  يظهر قدرة على الإتيان بما هو جديد مختاراً من سلّة الخيال ما حلا وطاب، كما في قوله: «وكم رقصْتُ أنا والريح في فرحٍ/ رقصَ الدوالي على رعشاتِ خابيتي». فكم هو جميلٌ رقص العناقيد حيث الخوابي على رعشة وانتظار! وكم هو جميل شال الزنبقة منسوجاً على نول الشوق: «غزلْتُ من صفو شوقي شال زنبقتي».

 

صاحبة الصوت

ويقصد عبد الصمد المرأة، طالباً منها أن تكون صاحبة الصوت في قصيدته، متوليةً عنه جمال البوح، فتعلن استبداد الشوق بها: «لو كُنتَ تدري ما اشتياقُ عناقي/ يا ذروةً في جمرةِ الأشواقِ»، وتشكو على فرح، عينَي حبيبها اللتين صارتا تحوكان جنون الإعصارِ، وطيفه الناري: «عيناكَ إعصارٌ وطيفك جذوة/ ووشاحك الخفقاتُ في الأعماقِ»، وتشتاق إلى أن تغدو ملكة في محبرة، لا تاج يعلو تاج القصيدة التي تقولها بكلِّ ما فيها من دفءِ الأنوثة: «يا ليتني بأنوثتي ورهافتي/ أزهو بشمخ الحبر في الأوراق»، وتعترف بأنّ الشاعر يساوي عندها بدء الزمان، كأن عقارب الساعات ما حرّكها سوى دقات القلوب: «مولاي، يا بدء الزمان بكوكب/ ظلٌّ بأهداب الهوى الخفّاق»...

واللافت أنّ عبد الصمد يسلّم نفسه للحبِّ بكلّيته، فليس يروق له اصطياد اللحظة العابرة على عجل، إنّما يطلب امرأة تملأه حتى انسداد الشرايين: «حوريّة، غوصي بأوردتي/ غوص الهوى في شالِك النّضر». وتغادره لتحطّ على جناحيه فيذوقا معاً نشوة الطيران في فضاءٍ عاشقٍ: «طيري وحطّي فوق أجنحتي/ مع نجمة الصبح النديِّ العطرِ»، وتكون الظلّ لقلم يحترف القصيدة: «كوني صدى الأقلام في كتبي/ يا نبضةً يا خافقَ العمرِ»، وتجسِّد المرأة الثائرة، التي تسعى إلى الخروج من تابوت الرّمل وأحلام شيخ القبيلة: «ثوري بربّ الكون واشتعلي / ثوري على الأعراف وانتصري»...

 قناطر الفراق

وإذا كان الحبُّ غير مقتصرٍ على أن يزور، فإنَّ له حصّته أيضاً في لحظات الفراق. وتحت قناطر الفراق يقف عبد الصمد وقبالته سراج لا يخفي دمعاً، ونور مذبوح بسكين الظلام من الوريد إلى الوريد: «أمّا وقد غادرت سيدّتي/ والشّهد لم يبرح على شفتي/ في ليلةٍ فيها السراجُ بكى/ واغتيلَ لون النور ملهمتي»، وللوداع عناق ذو صدى، كأنّه صوت من أصوات الحبِّ الكثيرةِ، وللطيف ضجيج تضيق به الرئة: «وضاع في ذاكَ الأريجِ صدى/ العناق، ضجَّ الطّيفَ في رئتي»، ويدرك عبد الصمد أنَّ الحبَّ يمضي من حضن الواقع إلى حضنِ الذكرى، فيحين وقت الحبر وتطلّ نجمة القصيدة، لتتحوَّل النساءُ إلى كائناتً لغويّة لا ينال الوقت من جمالها: «أعانق الذكرى، أضيء سراج صومعتي/ وأكتب وجهكِ بشهدِ المحابرِ»، والغيابُ يصيّر الماضي أسطورة، وأناسَه أبطالاً خرافيين، لذلك ترتفع أنثى الشاعر إلى أعالي ذاتها، ويصير لها من البخور عقودٌ وأساور: «... وفي البالِ أنشدكِ قصيدةً / وأحرق البخور في المجامر»، وتمدّ من عليائها القصيدة بالقوافي البكر، إذ إنّ الشعر بعضٌ ممّا تجود به عيناها اللتان إن لم تكونا ما عاشت قصيدةٌ في ذمةِّ ورقة بيضاء: «يقيني أنَّ الشعرَ سيّدتي/ وإن كُتبَ/ إن لم يكن لعينيكِ فهو عاقر».

 ويملك عبد الصمد أن ينجو من امرأة لم ينجُ قلبه منها، فيصرّح لها بأنّها كانت أرضاً له وسماءَ، غير أنها خسرت تاجها والصولجانَ: «أنا الذي سحبتُ الفوح من أقماري/ ورميتُ الورودَ في الأنهارِ/ أنا شجر زهَّر من غير ذكراكِ»، ويقرُّ بأنّها نزوة وبأنّه لبس الرّجل الجديدَ لتمضي هي بسلام إلى جزر النسيان الخائبة: «أنا ما عدتُ أنا وأنتِ/ نزوة كنتِ/ اعذريني/ ما عُدتُ أهواكِ».

 في «أكتبيني بعدُ»، كتبت المرأة الشاعر وجدي عبد الصمد قصائد يفيض العشقُ من قوافيها. وبدا الشاعر متمكِّناً من القصيدة الكلاسيكية، إلا أنّه دخل أحياناً تجربة الهدرِ اللغوي، ولم يستطع تجنب تكرار ذاته. وهذا الكلام لا ينفي أن له لمعات تثبت خصوبة قلمه الشّعرية.