المشكلة الكبيرة تحدث حين نصنع رموزاً في الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة والرياضة، ونعطيها مكانة ومنابر دون أي وجه حق، وحين يسود عقول أبنائنا وأنصاف متعلمينا ومثقفينا ما تجود به قرائح هؤلاء «المفكرين تحت الطلب».
لا أستطيع مقاومة هذا الشعور بالدهشة كلما استمعت إلى هؤلاء المحللين الذين يحاولون إقناعنا بأن سياسة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز حيال مصر كانت خاطئة، وأن الملك سلمان يعمل على إصلاحها، أو أولئك الذين يبررون الضربات الجوية لليمن ويحرضون على التدخل البري فيه، أو هؤلاء الذين يتحدثون عن ضرورة التعامل مع كل القوى المؤثرة على الأرض في سورية "حتى لو كانت متطرفة... لأن السياسة هي فن الممكن".إنهم يقولون عكس ما سمعناهم يؤكدونه ويلحون عليه مراراً وتكراراً، إنهم لا يحترمون عقولنا ولا ذاكرتنا، فيعطينا هؤلاء أسوأ مثل ممكن عن وظيفة "المحلل السياسي" و"قائد الرأي"، ويفوتهم بكل تأكيد أن "الأرشيف موجود" و"يوتيوب أيضاً".يذكرني هذا التغير الحاد في المواقف والتحليلات بما رواه لي أحد كبار منتجي البرامج في محطة فضائية خليجية مشهورة؛ حين أكد أن مقدم البرنامج الأكثر شهرة في تلك المحطة دخل في مشادة حادة مع مُعد برنامجه، بعدما جلس دقائق إلى ضيفي الحلقة محل الإعداد، ليكتشف أن أحدهما يدين بالولاء للآخر، ويعتبره "أستاذه"، ويصدّق على معظم ما يطرح من أفكار ورؤى. كانت حجة مقدم البرنامج أن فكرة برنامجه، التي تقوم على التناظر الحاد بين الأفكار، لا يمكن أن تثمر إلا في حال تباينت أفكار المتناظرين، بل تصادمت تصادماً بيناً، وقبل أن يرد مُعد البرنامج، والمسؤول عن اختيار الضيوف، مبرراً اختياراته، كان الضيف الكبير، مقاماً وسناً، يقول للمقدم بثقة وهدوء يعكسان احترافاً لهذه الصنعة: "لا تقلق، سنشعلها لك ناراً". وبالفعل، وفي الميدان، وفّى "المفكر" الكبير، مقاماً وسناً، بوعده، فقد أشعلها ناراً، وعلى عكس الاتفاق البادي قبل التسجيل مع "تلميذه"، فقد أظهر الضيفان تصادماً وتعاركاً وخلافاً حتى العظم في كل ما تم طرحه من تساؤلات أو أفكار أو حتى وقائع.والشاهد أن صانعي البرنامج، ورغم أخطاء مهنية عديدة يرتكبونها ويكرسونها يوماً بعد يوم، ظناً منهم أنها تجلب النجاح المستديم لعملهم، ليسوا هم الجاني الأوحد؛ إذ هناك جناة آخرون يشاركون في هذه الحفلة الهزلية، والمحاكاة السمجة لصراع الديكة ومباريات المصارعة المزيفة في الحلقات الرخيصة.فمع وجود مئات الفضائيات العربية، التي تبث على مدى ما يزيد على عشرة آلاف ساعة يومياً، نشأت الحاجة لمصادر من مفكرين وباحثين وعلماء وسياسيين ومعلقين ومحللين، يمكنهم التعليق على الأحداث ذات الأهمية، وتقديم تلخيصات أو تحليلات وافية، أو إلقاء الضوء على جوانب فنية لا يدركها الجمهور العادي، أو الاشتراك في برامج المناظرات كخصوم مفترضين.وللأسف الشديد، وكما يحدث في معظم أنشطتنا، فمعايير الجودة في الأداء تغيب، وتصب الاختيارات في الاتجاه غير الصحيح عادة، أو يستسهل المعدون والمنتجون اللجوء إلى الأسماء المعروفة، والوجوه المألوفة، للحصول على مداخلة تليفونية سريعة، أو زيارة للأستديو، أو مشاركة في أحد البرامج.وإذ تفيد قواعد علم الاقتصاد أن ظهور الطلب يخلق بالضرورة عرضاً للوفاء به؛ فقد ظهر العرض من تلك البضاعة وافراً ومتنوعاً إلى أقصى درجة ممكنة، حتى بات يخيل للمرء أن معاهد تدريب أنشئت لتخريج معلقين ومحللين جاهزين للانطلاق فوراً إلى ساحات الفضائيات وميادينها، وبأعلى درجة ممكنة من الجاهزية الشكلية، التي لا ترقى، في الغالب، إلى جاهزية في المضمون.وعلى غرار الـ Fast Food، أو الأطعمة السريعة والمعلبة ذات السعرات الحرارية الثقيلة والأضرار الصحية البالغة، يمكن تسمية الموجة التي لبت هذا الطلب بالعرض الوافر بالـ Fast Culture، أو موردي الطلبات الثقافية السريعة، أو المفكرين تحت الطلب Fast Thinkers، والذين يمكن الوصول إليهم في ظرف دقائق معدودات، والطلب إليهم الحديث فوراً عن موضوع محدد، سواء عبر الهاتف أو القمر الاصطناعي أو أمام الكاميرا.وبات المعدون والمنتجون في المحطات يضعون أسماء في أدلة عملهم، ويضيفون إلى كل اسم من تلك الأسماء عدداً من المجالات التي يمكن له أن يتحدث فيها، وفي بعض الأحيان يضيفون إلى هذا الاسم أو ذاك وصفاً مختصراً للحال التي يؤدي بها "دوره"، وهل يتمتع بالقدرة على "التسخين والإشعال"، وهو ما يعني قابليته للمشاركة في برامج "المصارعة" أو المناظرات.المفكرون تحت الطلب اليوم طبقة كاملة تعد الآلاف، وهم في ازدياد مطرد، يتكسبون من الظهور على الشاشات، وينظّرون ويعلقون ويحللون ويناظرون ويشرحون أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والأمنية والرياضية، وربما يشكلون جزءاً من الوعي الجمعي للأمة.والإشكال لا يتعلق بأناس يحققون أرباحاً لا يستحقونها، أو نمط تربح مادي هامشي ينشأ ويصوغ له مكانة واسعة، أو عدالة تغيب لأن أناساً غير مؤهلين بما يكفي، يكسبون دون تعب، فيما آخرون يتعبون دون عائد، ولكن الإشكال يتعلق هنا بمكانة يحققها هؤلاء في غفلة من الزمن؛ إذ يُنظر إليهم بعد زمن قصير من احترافهم اللعبة على أنهم قادة الرأي في مجتمعاتهم وخلاصة مفكريه وأنبه عقوله، في حين عقول أخرى تعمل في صمت، وربما تحترق، لإدراك منفذ حقيقي نحو التقدم لا تحفل باهتمام يذكر أو إشارة من تلك المنابر الإعلامية.المشكلة الكبيرة تحدث حين نصنع رموزاً في الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة والرياضة، ونعطيها مكانة ومنابر دون أي وجه حق، وحين يسود عقول أبنائنا وأنصاف متعلمينا ومثقفينا ما تجود به قرائح هؤلاء "المفكرين تحت الطلب"، بحيث تدور الأيام فلا يزهر في حدائق الفكر والمعرفة سوى كل نبات شيطاني ضار غير ذي أصل واضح، ويغيب كل إبداع حقيقي رصين، رواه مبدع أو مفكر حقيقي بالعرق والتعب، لأنه لم يستطع الوصول إلى سر العصر العظيم... الشاشة.أما المشكلة الأكبر فتحدث حين يضبط "المفكرون تحت الطلب" موجات تفكيرهم على قرارات السياسي ورغباته، ويحولون أنفسهم من صناع رأي وقادة فكر إلى مجرد أبواق دعاية تافهة ومتلونة ومأجورة.* كاتب مصري
مقالات
نحن... و«الفاست سنيكرز»
12-04-2015