في تصوري أن البنية التحتيتة للفكر العنيف في مجتمعاتنا ما زالت ناشطة، وهي تشكل الأرضية الخصبة المهيأة لقبول خطاب التطرف، وهي بنية تقوم على شبكة من المنابر والمنصات التي ترسخ ثقافة الكراهية في المجتمع، وتتمثل بتوظيف المنابر الدينية لخطب الكراهية، ومناهج تعليمية أحادية الرؤية لا تحصن الناشئة.

Ad

معركة المجتمعات العربية والإسلامية مع "الإرهاب" هي في الحقيقة معركة من أجل كسب عقول ونفوس، نجح الفكر المتطرف في اجتذابها وتجنيدها في خدمة مخططاته الإرهابية، ولم ننجح نحن في تحصينها، التساؤلات المحيرة في هذه القضية: لماذا يكسب "المشروع الإرهابي" عقولاً وقلوباً في الساحة الجماهيرية، ويجد أنصاراً يعملون على كسب الشباب إلى صفوفه؟! ما سر جاذبية خطاب التطرف؟! صحيح أن العالم أصبح موحداً ضد "داعش" لكن خطابه لا يزال يستهوي نفوساً وعقولاً من مختلف دول العالم.

 قال المنسق الأوروبي لشؤون مكافحة الإرهاب: هناك أكثر من (3) آلاف من الأوروبيين انضموا إلى "داعش"، لا يقتصر الأمر على الشباب، بل وصل إلى الشابات الأوروبيات المراهقات، طبقاً لما جاء في "الغارديان" البريطانية التي نشرت مؤخراً، تقريراً يذكر أن قرابة 10% ممن غادروا أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا، للالتحاق بمقاتلي "داعش"، هم من النساء! مراهقات أوروبيات يركبن الصعاب من أجل الانضمام إلى "داعش"، وفي مخيلتهن فكرة رومانسية بالارتباط بمقاتلي "داعش"!

ترى ما الذي يدفع شابات وشباناً ترعرعوا في أوروبا ودرسوا في مدارس علمانية، يعشقون الغناء والموسيقى والرقص، إلى الفرار من عائلاتهم، للتجنيد في صفوف "داعش"؟ مراهقة بريطانية تعيش حياة اللهو، ظهرت مؤخراً في سورية كمتحدثة باسم "داعش" من أجل تجنيد المزيد من الفتيات الغربيات لـ"داعش"، ومراهق سعودي، بعثه أهله للدراسة في أستراليا، لكن الشاب الصغير ترك الدراسة ولحق بمصاصي الدماء الدواعش، لماذا يرتمون في حضن "داعش"؟!

يحار المرء في تفسير دوافع أشخاص يعيشون في مناخ ديمقراطي غربي ينعمون بمباهج الحضارة، ويتمتعون بالحريات والحوريات، ولا يعانون أزمات اقتصادية أو مظالم، ما الذي يجذبهم في فكر "داعش" وخطابه؟! وما الذي يعجبهم في تصرفات قاطعي الرؤوس؟! ولا يقتصر سحر "داعش" على أناس عاديين، هناك أطباء ومهندسون جندوا أنفسهم في خدمته! لماذا يتركون الإسلام السمح الذي عليه مليار مسلم إلى إسلام قلة شاذة "إسلام الكراهية والعنف"؟! وما الذي يستهويهم في خطاب العنف والكراهية؟ وما العوامل الجاذبة فيه؟!

هذه التساؤلات المحيرة هي التحدي الأكبر والأخطر أمام مجتمعاتنا، أمام خطابنا التعليمي، وخطابنا الديني، وخطابنا الإعلامي والثقافي، لماذا ينتصر داعية الكراهية ويكسب أنصاراً أكثر من داعية الإسلام والمحبة؟! هذه هي القضية التي يجب أن ننشغل بها من أجل مستقبل أولادنا ومجتمعاتنا، علينا تفكيك خطاب التطرف والكراهية لنصل إلى أجوبة مقنعة عن هذه التساؤلات.

 هناك– بطبيعة الحال– من يستسهل الجواب، يلقي اللوم على الآخر الخارجي، فيتهم القوى الإقليمية والدولية ويحملها مسؤولية تجنيد شبابنا وتضليلهم، بهدف إشعال المنطقة واستدامة الفوضى فيها وصولاً إلى تقسيمها طائفياً وإثنياً، لخدمة مصالحها، وهناك من يحمل الإعلام الإلكتروني، وبالذات– إعلام التواصل الاجتماعي– المسؤولية، فيرى الباحث الأمني السعودي محمد الهدلاء أن 95% من المغرر بهم من الشباب السعودي، تم عن طريق "التواصل الاجتماعي"، وأشار إلى وجود (20) ألف موقع إلكتروني لاصطياد الشباب.

 ويشير محللون إلى أن (تويتر) بيئة خصبة لنشر خطاب الكراهية ووسيلة لتجنيد الشباب في التنظيمات الإرهابية!! وهناك خبراء نفسيون يرجعون الأمر إلى الضلالات العقلية والأمراض النفسية وعقد التنشئة المبكرة؛ بسبب الأسر المفككة، ولكن مهما تعددت الإجابات والتفسيرات، أرى أن فاعلية هذه العوامل وتأثيرها في الشباب لم تكن لتنجح لولا ضعف المناعة الثقافية والدينية لهؤلاء الشباب، فلو كانت الجبهة الداخلية محصنة من أفكار التطرف والعنف، لما استطاع داعية الكراهية كسب تلك العقول والنفوس الغضة.

 في تصوري أن البنية التحتيتة للفكر العنيف في مجتمعاتنا ما زالت ناشطة، وهي تشكل الأرضية الخصبة المهيأة لقبول خطاب التطرف، وهي بنية تقوم على شبكة من المنابر والمنصات التي ترسخ ثقافة الكراهية في المجتمع، وتتمثل بتوظيف المنابر الدينية لخطب الكراهية، ومناهج تعليمية أحادية الرؤية لا تحصن الناشئة، وتنشئة تربوية قلقة تدفع البعض إلى أحضان التطرف، إضافة إلى افتقاد تبني برنامج وطني للتحصين الفكري والديني لشبابنا، يكون بمثابة لقاح فكري ونفسي يقوي المناعة الثقافية لهم في مواجهة الغزو المتطرف، ما زالت آليات التصدي لجاذبية الفكر الإرهابي غير فعالة في تحجيمها واحتوائها.

 هلا تساءلنا: لماذا يستجيب بعض شبابنا لداعية الموت أكثر من داعية الحياة؟! لأن قطاعاً مجتمعياً عريضاً ما زال– وعلى النقيض من منهج الإسلام في الأخذ بالتيسير ورفع الحرج– أكثر ميلا إلى الرأي المتشدد وإلى الفتوى المتشددة وإلى الداعية المتشدد، توهماً أن الأكثر تشدداً هو الأصح إسلاماً، ومصداق ذلك أن "داعشياً" وقع في قبضة الأكراد في كوباني، علل قتاله لهم بأنه تلقى أمراً بإعادتهم إلى الإسلام الصحيح، وهذا يفسر كيف أن بعض من يسلمون في الغرب، يسلمون قفزاً إلى الإسلام المتشدد، ظناً أنه هو الإسلام الصحيح.

 ونشرت "واشنطن بوست" تقريراً عن تجربة الدنمارك في مواجهة التطرف، وجاء فيه أن الغالبية العظمى من المتطرفين شبان صغار السن من ذوي السوابق، اكتشفوا فجأة ما توهموا أنه الإسلام الحقيقي، وأغلبهم ينحدرون من عائلات مسلمة معتدلة، أو من أبوين مطلقين ويعيشون في معسكر خاص (غيتو) يعج بالمهاجرين.

ختاماً: يتساءل الكاتب السعودي مشاري الذايدي: ما سر جاذبية "داعش"؟ ويجيب: نعم هناك علل في الثقافة الدينية الحاكمة حول مفاهيم "الجهاد" و"الخلافة" و"الشريعة" و"الولاء والبراء" و"بغض الكفار" لم يصل المسلمون فيها إلى كلمة سواء، وهذا يساعد الجماعات المتطرفة على استغلال المشاعر الدينية وتيسير وسهولة تجنيد فئة من الشباب إلى صفوفها، وأتصور أن هذا صحيح؛ لذلك يجب تفكيك هذه المفاهيم وتدريسها من منطلق إنساني يراعي مقاصد الشريعة الإسلامية في السلام والتسامح والأخوة الإنسانية.

 * كاتب قطري