لعنة الحكمة!
موروثنا الشعبي لعنة! الموروث بكل أشكاله من أشعار وموسيقى وأغان ورقص وأمثال وحكم وأساطير وحكايات وملبس ومأكل، وكل ما يندرج تحت مسمى فلكلور يخصّنا هو لعنة تطاردنا، وتعوق قدرتنا على مجاراة العصر والانضمام إلى نادي المجتمعات المتحضرة!
هذا الموروث كرة حديدية ضخمة في نهاية السلسلة الفولاذية المربوطة بإحدى ساقي مجتمعنا، تمنعه من التقدم بحرية إلى الأمام، تحد من قدرته على الإمساك بجناح طموحه، وتشكّل عائقا حقيقيا للوصول إلى باب الغد لمجرد طرقه وليس حتى لفتحه، كلما تقدمت الساق الحرة خطوة باتجاه الشمس، عجزنا عن جرّ الساق الأخرى المقيدة بموروثنا الشعبي وإخراجها من حفرة الظلام! مضت السنون ونحن عالقون بين خطوة لم تكتمل وحفرة نقاوم السقوط فيها، وتظل لعنة هذا الموروث صامدة ضد رغبتنا في الانعتاق منها، ويبدو أنها تربح معاركها معنا بكل سهولة ويسر، وهزائمنا أمامها لم نعد نحصيها، ولا نتذكر أسماء ضحاياها، وكثيرا ما مدّت لسانها ساخرة من محاولاتنا العبثية للانطلاق الى الحياة المدنية المعاصرة. أصبح هذا الموروث مثل البلاستيك المحروق على أجسادنا، كلما حاولنا نزع قطعة منه، سلخنا قطعة من جلودنا معه ونزفنا كثيرا من الدم والألم! الموروث يسلّط لعنته علينا ونحن قطع نستحق تلك اللعنة، طوال هذه السنين لم نحسن التعامل مع موروثنا الشعبي عمدا، لم نقتنع أنه لا يمكننا عبور الضفة الأخرى ما لم نأخذه معنا، وتخيّلنا أنه يمكننا السير بساق واحدة بدونه، لم نشكّ لحظة بأنه لن يرضى إلا أن يكون إحدى الساقين وليس حذاء يسهل نزعه. كثير من مناصري الحداثة لدينا حمقى، وهم برأيي المسؤولون عمّا نحن فيه من تخلّف وليس الظلاميين، فهم تطلعوا إلى حياة عصرية تواكب ما وصلت إليه المجتمعات الأخرى، وظنوا أنه يمكننا ذلك بساق الحداثة فقط، حاولوا التخفف من موروثنا الشعبي، والتخلص منه، لأن ذلك سيسهّل علينا الوصول إلى مبتغانا بطريقة أسرع، أرادوا الوصول الى الغد بدونه، بل آمنوا ومازلوا يؤمنون أنه عائق يحول دون ما نصبو إليه من تطور، حاربوه بكل وسيلة، حاولوا دفنه تحت الثرى، سخروا منه، نظروا إليه بدونيّة، خجلوا منه أمام الآخرين، وحاولوا إخفاءه عنهم كمن يخفي بقعة نتنة في ردائه، أو كمن يحاول حبس مخبول من أفراد العائلة عن أعين الزائرين، وفي أفضل حالات التعامل معه، نظروا إليه كما الآخرين من وراء «فاترينه» في بعض المناسبات الاحتفالية. لم نجعل موروثنا ضمن طقوس حياتنا اليومية التي نفتخر بها ونعتز، ولم نعمقه في وجداننا الجمعي كباراً وصغاراً، ولم نجعل منه جزءا لا يتجزأ من هويتنا القومية. هذه القائمة الطويلة من الفلكلور لو كنا جذرناها فينا، وسرنا بها مع الحداثة نحو الغد، وجعلنا كلا واحد منهما «يفلتر» الآخر بشكل طبيعي دون تدخّلنا، لأمكنهما معاً تشكيل خطوة مكتملة للمضي قدماً، لكنّا تعاملنا مع موروثنا الشعبي كابن زنى، ولذلك لم يخف عداءه لنا، مسخّرا هذا العداء في خدمة كل من لا يريد لهذا المجتمع أن يتقدم. فلو عظّمنا الربابة على سبيل المثال في وجداننا القومي، لما استطاع الظلام قطع أوتار الكمنجة بسيف الدين! «الفلك- لور» تعني حكمة الشعب، فما حال شعب يريد التخلص من حكمته!