رئيس جمهورية أم سلطان؟
ظل رجب طيب أردوغان في سدة الحكم في تركيا لمدة تزيد على 11 عاماً كرئيس وزراء بصلاحيات تنفيذية واسعة، وبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في بلاده، سيبدأ ولاية أولى مدتها خمس سنوات أخرى في أعلى مستويات السلطة، وهو ما يعني أنه سيكون صاحب أطول فترة حكم في تركيا منذ مؤسس الدولة الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.لقد أقسم أردوغان اليمين الدستورية رئيساً للبلاد نهاية الأسبوع الماضي، وبمجرد تسلمه مقاليد الرئاسة رسمياً، سارع إلى تكليف وزير خارجيته أحمد داود أوغلو بتشكيل حكومة جديدة تمثل حزب العدالة والتنمية الحاكم.
أول أمس الجمعة، أعلن أوغلو أسماء وزراء حكومته، وقد تبين أن معظمهم ينتمي إلى حكومات أردوغان السابقة... لا يبدو أن شيئاً سيتغير سوى اسم رئيس الوزراء، لكن الرجل القوي الذي سيدير الأمور دائماً سيظل هو نفسه أردوغان.استطاع أردوغان خلال ثلاث ولايات متتابعة في منصب رئيس الوزراء أن ينقل تركيا نقلة حقيقية إلى الأمام، وبعدما تسلم زمام الأمور في وضع صعب، لدولة مديونة، مرافقها متداعية، وأداؤها الاقتصادي هزيل، وموقفها الإقليمي والدولي مهزوز، استطاع أن يصل بها إلى وضع مرموق، إثر نجاحه في علاج الاختلالات، وقيادة البلاد إلى الأمام بقوة.باتت تركيا في عهد أردوغان إحدى الدول المتقدمة في المجالات الصناعية والاستثمارية، كما انتعش القطاع السياحي بها انتعاشاً قوياً، وتعزز الإنتاج الصناعي، وتدفقت الاستثمارات الخارجية على الاقتصاد النشط، وتحسن مستوى الدخل الفردي، ليتضاعف عدة مرات.ليست تلك هي كل العوامل التي عززت مكانة أردوغان، ومنحته الفرصة ليفوز بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، فثمة عوامل أخرى لا تقل تأثيراً.يمتلك حزب العدالة والتنمية الذي يهيمن عليه أردوغان ماكينة انتخابية ضخمة ومؤثرة، تستخدم ذات "التكنيكات" التي يستخدمها تنظيم "الإخوان" في الدول التي ينشط فيها، وهي "تكنيكات" تهدف عادة إلى "تحزيم" الانتخابات، بمعنى التحكم في تقسيم الدوائر، واختيار المرشحين، والتنسيق مع الكتل والجماعات وأصحاب المصالح، بشكل يضمن فوز أكبر عدد من مرشحي الحزب.وعلى الجانب الآخر، فإن المعارضة تبدو مفتتة، إلى درجة أنها، ورغم سمتها المدني في مواجهة محافظة حزب أردوغان، اختارت أن ترشح أكمل الدين إحسان أوغلو، وهو رجل محسوب بشكل أو بآخر على المحافظين أيضاً.لقد أخفق إحسان أوغلو في الحصول على الأصوات التي حصلت عليها المعارضة في الانتخابات البلدية الأخيرة التي جرت في ربيع هذا العام، وهو ما يعني أنه لم يكن مرشحاً متفقاً عليه من جانب قوى المعارضة كلها.الأكراد أيضاً رشحوا دميرتاش، وهو مرشح يساري غير معروف على نطاق واسع، إلى درجة أن بعض من منحه صوته من الأتراك لا يتذكر اسمه على وجه التحديد.حصل دميرتاش على نحو أربعة ملايين صوت، لم تمثل سوى نحو 9% من الإجمالي، في حين أن تلك النسبة كانت من الممكن أن تحسن كثيراً من الحصيلة التي تحصل عليها المعارضة مجتمعة إذا استطاعت أن تلتف حول مرشح واحد.بسبب قدرة أردوغان على حسم تلك الانتخابات من الجولة الأولى، واستناداً إلى فوز حزبه الأخير بالانتخابات البلدية التي جرت في مارس الماضي، ولأنه يمتلك أصلاً أغلبية مريحة في البرلمان (313 مقعداً من أصل 550 مقعداً)، فإنه سيواصل خطته من أجل إجراء تعديلات دستورية تضمن له توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية لتصبح أكثر تأثيراً في السلطة التنفيذية، ويتحول معه هذا المنصب الشرفي، الذي كان يصل إليه صاحبه عبر انتخابات غير مباشرة، إلى منصب أكثر فاعلية وتأثيراً.إن إجراء تعديلات دستورية في هذا الاتجاه يمكن أن يكرس سلطة أردوغان لعشرة أعوام أخرى، إذ سيمكن توقع ترشحه لولاية رئاسية ثانية في أعقاب تلك الولاية التي ستنتهي في عام 2019. ليس هذا هو مناط هيمنة أردوغان الوحيد، فإضافة إلى خططه لتوسيع صلاحياته التنفيذية كرئيس للجمهورية، يبدو أنه لا يخطط أبداً للتخلي عن هيمنته على حزب العدالة والتنمية، رغم أن لوائح هذا الحزب لا تجيز تولي رئاسته لأكثر من ثلاث مدد.وعندما تحدث أحمد داود أوغلو في المؤتمر الطارئ الذي أقامه الحزب نهاية الأسبوع الماضي ليتسلم زعامة الحزب من سلفه أردوغان، قال للحاضرين "إن الحزب يسلم السلطة للمرة الأولى في ظل وحدة كاملة ومن دون أي خلافات"، في حين وعدهم أردوغان بـ "عدم حدوث أي تغيير".سيواجه أردوغان مشكلات ومعارضة من دون شك، وعلى الأقل فإن احتجاجات اندلعت في إسطنبول و"ديار بكر" بمواكبة انعقاد مؤتمر الحزب الحاكم يوم الأربعاء الماضي.لقد ندد المحتجون بما أسموه "ضرب الحيادية التي ينص الدستور على وجوب توافرها في أداء رئيس الجمهورية وعدم انحيازه إلى أي حزب، باعتباره رئيساً لكل الأتراك".ليس هذا فقط، لكن متظاهري "إسطنبول" رفعوا شعارات تقول: "الرئاسة لا يمكن أن تمحو الفساد والسرقة"، إنهم يذكرون بوقائع الفساد التي تم الكشف عنها خلال الشهور الأخيرة، والتي طالت مقربين من أردوغان من بينهم نجله وبعض وزراء حكومته.ستظل السياسة الخارجية أيضاً مجالاً يمكن أن يفرز معارضة واضحة للرجل، وهي السياسة التي اتخذت منحى مغايراً في السنوات الخمس الأخيرة، مقارنة بما عرفته السياسة التركية على مدى العقود الثلاثة الفائتة. في تلك السنوات الخمس الأخيرة تكرست سلطة أردوغان وتعاظمت نجاحاته الاقتصادية من جهة، وزادت نزعته الاستبدادية، واعتداءاته على حقوق الإنسان، وقمع الصحافة والإعلام، والتغول على سلطة القضاء، من جهة أخرى.لقد سعى الرجل إلى لعب دور سلطان عثماني وليس رئيس وزراء لدولة إقليمية قوية ومؤثرة، وحاول أن يفرض سلطته على الإقليم، وساند "الإخوان" بقوة في أكثر من بلد، باعتباره واحداً منهم، أو من أكثر القريبين والمتعاطفين معهم على أقل تقدير.يتظاهر بعض الأتراك من وقت إلى آخر ضد سياسة أردوغان تجاه سورية، ورغم حفاوته بالسوريين وتذليل العقبات أمامهم، فإن قطاعاً منهم بدأ يدرك أن ممارساته تجاه سورية لم تؤد سوى إلى مزيد من تفكيك هذا البلد ونزوح ثرواته إلى تركيا.كانت إدارة أردوغان لعلاقاته مع مصر سيئة ومتعالية، ومعاندة لإرادة المصريين، ومناوئة للدولة المصرية، طيلة الفترة التي تلت إطاحة "الإخوان" من الحكم، وحتى هذه اللحظة، وقد كرس سلطته وكاريزمته الشخصية، وكتلة بلاده الحيوية لإلحاق الأذى بالمصريين ومساندة إرهاب "الإخوان".سيواصل أردوغان خطته لإحكام سيطرته على السلطة في تركيا، من خلال إجراء تعديلات دستورية تمنح رئيس الجمهورية صلاحيات تنفيذية من جهة، وإبقاء هيمنته على حزب العدالة والتنمية الحاكم من جهة أخرى، وبسبب تفتت المعارضة وانحسار تأثيرها، وفي ظل الإنجازات الاقتصادية التي حققها سوف يظل هو الرجل القوي في البلاد لسنوات.وعلى الصعيد الخارجي سيواصل أردوغان سياساته الرعناء ضد مصر، حيث يستضيف قيادات تنظيم "الإخوان"، ويرفض الاعتراف بالتغيرات السياسية الأخيرة التي شهد العالم كله بنزاهتها واستيفائها للإجراءات الديمقراطية؛ مثل الدستور الذي أقر مطلع العام الجاري، والانتخابات الرئاسية التي جرت في شهر مايو الماضي.وسيغريه التمكن من السلطة، التي يمكن أن يبقى مستأثراً بها لمدة عشر سنوات أخرى، باتخاذ خطوات نحو تعزيز الحس المحافظ في البلاد، اتساقاً مع انتمائه الأيديولوجي، وبما يسهل له تمديد نفوذه الخارجي، لتلبية طموحه إلى الزعامة والسيادة.وفي غضون ذلك سيتحول أردوغان من رئيس وزراء حقق إنجازات مهمة لبلاده عبر آليات ديمقراطية إلى دكتاتور متشبث بالسلطة و"سلطان" متعطش للنفوذ، ولن تكون الديمقراطية التركية حينذاك سوى مطية يتم استخدامها من أجل "حماية العرش" وإبعاد الآخرين عنه.* كاتب مصري