ربما يكون جيلنا محظوظاً لأنه عاش في أفضل فترة من التاريخ المعاصر حتى الآن. فعلى مدى السنوات الخمسين الماضية، نما الناتج الإجمالي العالمي بمعدل سنوي يبلغ 3.6 في المئة في المتوسط، مدفوعاً بالزيادة في حجم القوى العاملة وتحسن الإنتاجية بمعدلات تقارب هذه النسبة. بينما خلصت دراسة مهمة وشاملة أجراها معهد "ماكينزي" العالمي إلى أن السنوات الخمسين المقبلة ستشهد انخفاض معدل ​​النمو السكاني العالمي إلى 0.3 في المئة سنوياً. وإذا واصلت الإنتاجية تحسنها بمعدل 1.8 في المئة سنوياً، فإن معدل النمو الإجمالي سينخفض ​​إلى 2.1 في المئة، وهو معدل أقل بنحو 40 في المئة مما كان عليه خلال نصف القرن الماضي. ومع أنني كنت أخشى ضعف الطلب الذي يسبب تباطؤ النمو، فلم يخطر في بالي أن تكون المشكلة الرئيسية هي أن عدد البشر لن يكون كافياً لدعم استمرار النمو في المشتريات. وقد تكون الآثار المترتبة على هذا التباطؤ على مستوى معايير المعيشة وفرص الاستثمار هائلة.

Ad

لقد تضاعف حجم الاقتصاد العالمي خلال السنوات الخمسين الماضية ستة أضعاف. وبناء على التوقعات المذكورة آنفاً، فمن المتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بمقدار ثلاثة أضعاف خلال السنوات الخمسين المقبلة. وكان معدل النمو السكاني تصاعد بفضل ارتفاع معدلات الخصوبة وانخفاض وفيات الرضع وزيادة متوسط ​​العمر المتوقع. كما ارتفعت نسبة الأشخاص في سن العمل (15-64 عاماً) من 58 في المئة من مجمل السكان عام 1964 إلى 68 في المئة عام 2014. وأسهم التحول من الزراعة إلى الصناعة والخدمات في تحسن الإنتاجية، كما لعبت التقنية دوراً مهماً في ذلك. ووفقاً لدراسة "ماكينزي"، يبلغ المتوسط العالمي لإنتاجية الموظف اليوم نحو 2.4 ضعف ما كانت عليه عام 1964. ونظراً إلى أن كفاءة أوروبا والولايات المتحدة الأميركية كانت جيدة نسبياً عام 1964، فقد كان المعدل السنوي لتحسن الإنتاجية فيها 1.5 في المئة و 1.9 في المئة على التوالي، في حين ارتفعت الإنتاجية في كوريا الجنوبية واليابان بمعدل سنوي بلغ 4.6 في المئة و 2.8 في المئة على التوالي. أما في الصين، وكما هو متوقع، فقد ارتفعت الإنتاجية بنسبة 5.7 في المئة سنوياً، بينما كانت هذه النسبة في المكسيك والمملكة العربية السعودية أقل من 1 في المئة. وتشير الدراسة إلى أن فجوة الإنتاجية بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية ما تزال واسعة، حيث تصل إلى نحو خمسة أضعاف، ما يوفر فرصة كبيرة للأسواق الناشئة في المستقبل.

وربما يكون التغير الأكبر في المستقبل هو تباطؤ النمو السكاني. فمعدلات الخصوبة آخذة في الانخفاض، بينما يواصل متوسط ​​عمر السكان في أوروبا والصين واليابان ارتفاعه. ومن المتوقع أن يصل عدد الموظفين في الصين إلى ذروته عام 2024 قبل أن يبدأ بالتراجع. كما تشير التوقعات إلى انخفاض نسبة السكان في سن العمل في الدول الـ 19 الكبرى ونيجيريا من 68 في المئة إلى 61 في المئة خلال نصف القرن المقبل. وبحلول عام 2064، يمكن أن يكون عدد الموظفين في الهند قد نما بنسبة 54 في المئة، في مقابل انخفاض نسبته بمقدار 20 في المئة في الصين.

وعلى الرغم من أن تقديرات شركة ماكينزي لمعدلات النمو السكاني تبدو منخفضة بنظري، لكن مفهوم تباطؤ النمو السكاني في العالم يبدو منطقياً. وكانت الدراسة التي أعدها لنا ديك هوكنسون، المحلل الديمغرافي في شركة إيفركور آي إس آي، عن النمو السكاني العالمي أقل تشاؤماً إلى حد ما. وبين هوكنسون أن مجموعة الدول الـ 19 الكبرى ونيجيريا تشمل ألمانيا وروسيا واليابان والصين وكوريا الجنوبية، وهي دول ستشهد انخفاضاً في عدد سكانها وعدد موظفيها خلال السنوات الخمسين المقبلة. وفي هذه الدراسة، إذا نظرنا إلى العالم بمجمله، يبقى تباطؤ النمو السكاني ملموساً، لكنه يتقلص من 1.8 في المئة إلى نحو 0.5 في المئة. وكان تعداد سكان العالم ارتفع بنهاية عام 2014 إلى 6.4 مليارات نسمة، بعدما كان يقدر بنحو 2.9 مليار نسمة عام 1964. وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد البشر سيصل إلى 9 مليارات بحلول عام 2064، ما يعني تباطؤ معدل النمو السكاني إلى النصف تقريباً مقارنة مع السنوات الخمسين الماضية.

وتقول دراسة ماكينزي إن تحسن الإنتاجية يمكن أن يعوض عن تباطؤ النمو السكاني، لكن ذلك يقتضي أن يكون معدل التحسن السنوي في الإنتاجية أسرع بنحو 80 في المئة على مدى السنوات الخمسين المقبلة مما كان عليه في السنوات الخمسين الماضية، وهذا لن يكون سهلاً. فبالنظر إلى كل الابتكارات التقنية الثورية التي شهدتها العقود الماضية، بما في ذلك الهاتف النقال والحواسب الشخصية والإنترنت، أعتقد أن تحقيق هذا المعدل المتسارع يبدو مستبعداً. وتخلص الدراسة إلى أن حوالي 75 في المئة من نمو الإنتاجية على مستوى العالم سيكون نتيجة الاعتماد الواسع لأفضل الممارسات. وتوجد هذه الفرص في مناطق جغرافية معينة، وتشمل على سبيل المثال استخدام أشكال أكثر فعالية في قطاع التجزئة، وزيادة الحجم والطاقة الإنتاجية لتجميع السيارات، وتحسين الكفاءة التشغيلية في مجال الرعاية الصحية، وتقليل الهدر في مجال الخدمات الغذائية. وباختصار، سوف تنجم هذه الفرص عن "توسيع الآفاق" أو الابتكار.

وقد يحسب المرء أن اعتماد أفضل الممارسات ينطبق غالباً على الصناعات التحويلية والخدمات، لكننا نرى فرصاً كبيرة ما تزال قائمة في مجال الزراعة. وفي جانب الابتكار، تقول الدراسة إن التقدم التقني الذي شهدته السنوات الخمسون الماضية سوف يستمر كدافعٍ رئيسي لتحسين الإنتاجية. ونجد اليوم أن هوامش الربح في الشركات المدرجة ضمن مؤشر ستاندرد آند بورز SandP 500 يتجاوز نسبة 10 في المئة ، بعد أن ارتفع بشكل حاد منذ نهاية الركود عام 2009. ولم تكن تلك الهوامش تاريخياً أعلى من ذلك المستوى بكثير. وربما يرجع التحسن في الربحية إلى استخدام التقنيات الحديثة وإبقاء تكاليف العمالة البشرية منخفضة. حيث أن اعتماد الآلات بدل البشر، والعدد الهائل من الناس الذين يبحثون عن عمل، سمح للشركات بتوظيف العمال دون زيادة ملموسة في الأجور. ونتيجة لذلك، نجد أن تكاليف العمالة لوحدة الإنتاج ترتفع ببطء شديد.

لقد تباطأ نمو الإنتاجية في الاقتصادات المتقدمة، من 3.2 في المئة في الفترة ما بين 1964 و 1974 إلى 0.8 في المئة خلال الفترة ما بين 2004 و 2014. أما في الأسواق الناشئة فكانت الصورة معاكسة، حيث تسارع نمو الإنتاجية بأكثر من الضعف، من 2.6 في المئة خلال الفترة بين عامي 1964-1974 إلى 5.6 في المئة في السنوات العشر الأخيرة. وفي عام 1964، كان الفارق بين الناتج بالدولار لكل موظف في الاقتصادات المتقدمة عنه في الاقتصادات النامية (على أساس تعادل القوة الشرائية) يقدر بنحو 32.000 دولار أميركي. وعلى الرغم من تحسن الإنتاجية بصورة أسرع في الاقتصادات النامية، فقد تفاقمت هذه الفجوة لتصل عام 2014 إلى نحو 73.000 دولار.

سنكون بحاجة إلى التركيز على الآثار المترتبة لتباطؤ النمو السكاني على النمو الاقتصادي. ويذكر تقرير ماكينزي عشرة عوامل داعمة للنمو تشمل تحسين البيئة التنظيمية والتشريعية لتشجيع الابتكار، والتركيز على المواءمة بين المهارات وفرص العمل في مجال التعليم، وإزالة العوائق أمام المنافسة في قطاع الخدمات، وتحسين النشاط الاقتصادي العابر للحدود من خلال اتفاقيات التجارة، وتشجيع المزيد من النساء على المشاركة في العمل، وتحفيز الموظفين المنتجين للعمل بعد سن التقاعد المعتاد، وتحسين البنية التحتية، وزيادة الإنفاق على البحث والتطوير. وعلى الرغم من أن جميع هذه العوامل تساهم في دفع عجلة النمو، فإنها غالباً لن تؤدي إلى قفزات كبيرة أو سريعة.

وهذا يعني، بالنسبة للمستثمرين، أن هوامش الربح ستتعرض على الأرجح للضغط إذا تراجع التحفيز الناجم عن تحسن الإنتاجية. كما يعني أن زيادة العائدات قد تغدو متواضعة مع استمرار تباطؤ النمو السكاني. وبسبب التأثير السلبي لهذه العوامل على نمو الأرباح، سوف تركز الشركات بشكل أكبر على الهندسة المالية، بما في ذلك عمليات إعادة شراء الأسهم التي قد تكون ممولة بالديون، فضلا عن عمليات الاندماج والاستحواذ، في محاولة لتحسين الربحية. وسيكون الابتكار من أهم عوامل تحسين الربحية، ما سيدفع المستثمرين للبحث عن الصناعات والشركات التي يمكنها أن توفر ذلك.

وتشير دراسة ماكينزي إلى أن تراجع معدلات النمو في الدول الأكبر سيكون أكثر خطورة. ففي كل من الولايات المتحدة وألمانيا واليابان، تتوقع الدراسة انخفاض معدل النمو السنوي في السنوات الخمسين المقبلة بنسبة 1 في المئة بالمقارنة مع السنوات الخمسين الماضية. وفي الأسواق الناشئة، سينخفض معدل النمو في الصين من 7.5 في المئة إلى 5.3 في المئة، وفي الهند من 5.1 في المئة إلى 3.0 في المئة، وفي البرازيل من 4.0 في المئة إلى 1.6 في المئة، وفي المكسيك من 3.7 في المئة إلى 1.3 في المئة، وفي روسيا من 1.6 في المئة إلى 0.6 في المئة. وبرأيي فإن جميع هذه الدول تعول على تحقيق نمو أفضل في المستقبل (أو مكافئ على الأقل) لما شهدته في السنوات الماضية، حيث أن كل حكومة تعد بتحسين مستوى المعيشة لمواطنيها، وليس العكس كما قد يوحي تراجع معدلات النمو. لكن قلب هذا الاتجاه السلبي سيتطلب جهوداً كبيرة من قبل القطاعين العام والخاص على حد سواء.

لقد كانت الأسواق الناشئة صاحبة النصيب الأكبر من التغير في مشهد العمالة العالمي. واستناداً إلى تقرير ماكينزي، فقد ازداد عدد الموظفين في الصين وحدها بنحو 452 مليون شخص بين عامي 1964 و 2014، وبلغت الزيادة في الهند نحو 335 مليون موظف. وحتى في الولايات المتحدة، فإن عدد الموظفين عام 2014 يزيد بنحو 75 مليون شخص عما كان عليه عام 1964. أما في المستقبل، فمن المتوقع أن تتصدر الهند دول العالم من حيث نمو العمالة، حيث ستضيف نحو 255 مليون موظف خلال السنوات الخمسين المقبلة، تليها نيجيريا بنحو 153 مليون موظف جديد. وستحافظ الولايات المتحدة على معدل نمو إيجابي بإضافة 38 مليون وظيفة جديدة. بينما ستكون الصين الخاسر الأكبر في هذا المجال، حيث من المتوقع أن ينخفض عدد الموظفين فيها بنحو 152 مليوناً.

يعتبر تقليل ساعات العمل الأسبوعية من المقاربات البسيطة لخلق المزيد من فرص العمل، ومن المفترض أن يساعد ذلك أيضاً في تحسين نوعية الحياة. وقد شهد العالم الكثير من مبادرات تقليل ساعات العمل الأسبوعية على مدى السنوات الخمسين الماضية. فقد كان أسبوع العمل في كوريا الجنوبية هو الأطول عالمياً عام 2012 (42 ساعة عمل)، ولكنه مع ذلك أقصر بساعتين فقط مما كان عليه عام 1964، وفقاً لدراسة ماكينزي. ومن أبرز التغييرات الأخرى نذكر تركيا (التي انخفضت فيها ساعات العمل الأسبوعية من 45 ساعة عام 1964 إلى 36 ساعة عام 2014)، وإيطاليا (من 45 ساعة إلى 34 ساعة)، وفرنسا (من 41 ساعة إلى 28 ساعة)، والمملكة المتحدة (من 42 ساعة إلى 32 ساعة)، وألمانيا (من 40 ساعة إلى 27 ساعة). أما في الولايات المتحدة، فقد انخفض عدد ساعات العمل الأسبوعية بمقدار ثلاث ساعات فقط من 36 إلى 33 ساعة.

ومع كل ما سبق، فمن المحتمل أن تتطور الاتجاهات بشكل مختلف عما يتوقعه التقرير. فالكثير منا يقلق من زيادة التعداد السكاني في العالم وليس من انخفاضه، حيث أن عدد البشر حالياً قد يكون أكبر مما يجب بالمقارنة مع عدد الوظائف المنتجة، ويعد هذا التباين سبباً رئيسياً في الظروف البائسة التي يعيشها عدد كبير من الناس. لذلك فإن الفهم الصحيح للمسار الفعلي لتطور النمو السكاني والإنتاجية في أنحاء العالم سيكون ضرورياً جداً لتحديد استراتيجيات الاستثمار الفعالة في المستقبل.

* بايرون واين ، نائب رئيس شركة بلاك ستون