العزف بمجدافين

نشر في 30-03-2015
آخر تحديث 30-03-2015 | 00:01
 فوزية شويش السالم العزف بمجدافين رواية للكاتب المصري الشاب "محمد محمد مستجاب" ابن الكاتب الكبير "محمد مستجاب" الذي ورث ابنه مهنة الكتابة الأدبية التي برع فيها الابن وتمددت كتابته لتشمل القصة القصيرة والسيناريو والمقال وكتب الأطفال، ولعل محمد من الكتاب القلة الذين ورثوا مهنة الكتابة، فالكتابة والرسم مهنتان ليس من السهل توريثهما، ونادرا ما نرى كتاباً ورثوا مهنتهم لأبنائهم، فهم ليسوا مثل أبناء الممثلين الذين من السهولة عليهم تعلم مهنة أهاليهم لأنها مهن قابلة للتدريس والتعلم، وغالبية أبناء الكتاب والرسامين يشتغلون بمهن بعيدة عن مجالي الكتابة والرسم، لأنهما بالفعل مجالان يحتاجان إلى الموهبة بالدرجة الأولى، والموهبة لا تورث إلا في حالات نادرة، ومنها حالة محمد الذي برع في مهنة الكتابة الأدبية الفنية بمختلف أنواعها ونال جوائز عديدة من جهات متنوعة على كتاباته ومن ضمنها هذه الرواية.

"العزف بمجدافين" رواية أحداثها ليست جديدة فهي كُتبت مرات عديدة في السير الشعبية ومثلت في أفلام مثل فلم "شيء من الخوف"الذي وردت فيه الجملة المشهورة "جواز عتريس من فؤادة باطل" وهو تقريبا ذات المشهد الذي يحدث عندما تردد "صبرية" جملة "البلد دي ما فيهاش رجالة"، فتقتل من قبل الباغي المسيطر على القرية التي أكلها الخوف من عائلة الجربان المستبدة، وكما جاء في هذا التعبير الرائع: "قريتنا ليست مثل أي مكان وناسها غير بقية الناس، فأنت تتربص بعدوك وهو ذاهب لصلاة الفجر، وتزوج ابنك لابنته بعد العصر، وتحلف أن تحميه في العشاء، ثم تصطاده في أول الليل".

لكن الجديد في الرواية هو المعالجة في صورة جديدة حديثة لقص السيرة الشعبية، بشكل مخالف للراوي القديم الذي يمسك بزمام الحكاية ويقصها من أولها إلى آخرها وهو القابض على أقدارها وخيوطها كلها بقبضته، مع محمد مستجاب باتت رواية حديثة متحررة من سيطرة الراوي الشعبي وتتحرك بمشاهد حية سينمائية متنوعة حديثة وإن ملكت حلية السير الشعبية، ومن خلال شخصية البطل "هارون"يرسم محمد الريف المصري بلوحات نابضة حية تكاد "تنط" من ضلفتي الكتاب، ولو لم يكن كاتباً لأصبح رساما بيسر، فالريف بطبيعته بشجره وشواشي نخيله، سنابل قمحه، غيطانه وسواقيه وترعه وناسه وطيوره وحيواناته، كلها مرصودة من خلال عيونه التي ترسم أجواء القرية وحركة ناسها وطبيعة سلوكهم وتصرفاتهم حيال ما يمر عليهم من أحداث لا يعرفها إلا من عايش طبيعتها هذه، وسجلها في هذي الصورة: "ترتفع إيقاعات طبول التحطيب فتنسل إلى الزرع وشواشي النخل. وتمتزج بروائح آخر النهار متدفقة في العلالي، وتصب دقة دقة على سطح الإبراهيمية، وتتجمع في خفوت راقص تحت طبلة أذن هارون، فيهتز جسده، ويهتز المجدافان، ويعيد هارون التدقيق، فتسكن ذراعاه ويستجيب القارب، ثم تستجيب المياه، وتتحول إلى صفحة رائقة تعكس صور الشجر الساخن".

القرية هنا هي عينة صغيرة لمصر ولكل البلاد العربية الخاضعة لأنظمة قمعية فاسدة مستبدة بشعوبها التي يقتلها الخوف إلى أن يظهر لها المخلص الذي يقضي عليه ويحررها من سطوته ويعيد لها حريتها وأمنها، وهو ما صوره في مشهد الختام: "وتمازجت وتدافعت بالتراب والزغاريد والهتاف والعرق والصراخ والأعيرة، وتحولت الحلقة إلى فوضى متموجة موحلة مختلطة بين الحق والباطل، والزغاريد والصراخ، والعرق والدموع، والسباب والتهنئة، وامتلأت الحلقة بالناس والحيوانات والهياج والهتاف وأغصان الجميز وجريد النخل والأذرع والسيقان والأفخاذ والأقدام والعصي والأوتار... وقف هارون ليستمتع بمنظر الكتل البشرية المتحفزة السعيدة، كان فرحا مليئا بالحبور، وفؤاده يرقص داخل سردابه، وكان حزينا لفقده صبرية، لكن الخلق تحلقوا حوله، ثم رفعوه فوق أكتافهم ولعلعوا باسمه داخل حناجرهم، الناس والشمس والأصوات والموسيقى والأنوار وفسائل النخيل وشواشي الشجر كلها تزغرد فتصنع من التزاحم ثورة، ومن الزغاريد فرحاً، ومن التحرك طاقة، ومن التصادم رفضا لكل خوف".

هذا المشهد العظيم الذي صوره في لحظة تحرر قرية هو بالضبط ما حصل في كل لحظات الثورات التي حدثت في الربيع العربي وكان أفضلها ثورتي مصر وتونس اللتين انتهتا بحرية حقيقية لشعبيهما، ويبدو أن محمد مستجاب قد شارك ككل المصريين في ثورتي 25 و 30 يناير مما انعكس على أجواء روايته، أو قد يكون متنبئاً بهما قبل حدوثهما.

back to top