شكيب خوري في {أنادي التراتيل يردُّ البرق»... مبدع يملأ تعدّده بالفرادة
رجل متعدّد. له بصمته على ذاكرة المسرح. وله قنديله على شرفة الرواية. وله رَكْوَة حبر في خيمة القصيدة. تعبهُ يباركهُ الجمال. شكيب خوري هو المالئ تعدُّده بفرادته، والذي يشبه نفسه في كلِّ تعبٍ جميل.
في جديده الشعريّ «أنادي التراتيل يردُّ البرق» يواصل خوري الانتماءَ بنزق إلى جملته الشّعرية الهادئة على عمق مسوَّر بالإيحاء.
في جديده الشعريّ «أنادي التراتيل يردُّ البرق» يواصل خوري الانتماءَ بنزق إلى جملته الشّعرية الهادئة على عمق مسوَّر بالإيحاء.
يدخل شكيب خوري إبحاره ربّاناً بلا شراع، ناشداً من يُدرَكُ بلا طريق، غير أنّهُ يحضر بالرحيق، ويدلُّ على ذاته، ويبقى مقيماً في الحنين: «اصطبغ جسمي برحيق أثيركَ/ حملتُ أنفاسكَ إلى كوّةٍ تستسقي شرارة ولادتك». فمن هو ذلك الذي يسكن كناراً متصوِّفاً يغني ريشه عشقاً وحنجرته غناء...: «انحنى بجانبي الكنار./ غَرّدَ: أنعشني، يا أنا، بما شربتَ لأطوفَ مثلكَ مع العشق». لتبدو بوصلة الرحلة مُوَلّية كل ما فيها من دليل قِبْلة القدس: «هاتِ يدكَ./ رافقْني إلى زهرة القدس/ هناك يشتعل الولهُ». ويفتحُ خوري عينيه لطائر الوروار عائداً، حاملاً ما بين جناحيه قصائد الحنين، فتمسي العودة احتفالاً سماويّاً، تبارك فيه السماء استمرارية الحياة الموزّعة بين مد وجزر، لقاء وفراق، دمعة وابتسامة: «العودة قدّاس/ جوانح مثقلة باللهفة/ إلى عشّ حاكه بأوتار الحياة/ يغمر أولاداً/ أحفاداً/ حبيباتٍ يرثْنَ طقوسَه.» وبلغة طاعنة في العاطفة والتعب يمدُّ خوري صوته، يمدُّه برغبة ممتلئة من ذاتها صوبَ ملك الأقدار ليقبل استقالته من مملكة الرحيل ويملأه سلاماً وطمأنينة حين يمنحه امتداداً لطفولة سابقة بين فراخ الوروار: «متى ستحبُّني كما طيورُك،/ يا ملكَ الأقدار،/ ينعدم الرحيل،/ أستريحُ بين فراخ الوروار».وفي قصيدة «متى» يتعاظم ألم خوري الوجودي، فهو ينتظر أن يعبر تجاعيد وجهه إلى الخلود، إلى الالتحام بالوجود كلّه ليتجلّى في كلِّ حياة يحتضنها كوكبنا الدّوار أبداً حول شمسه: «متى يا وجهي المتجعِّد أراك في مرآة الوجود/ أطمئِنُ الأشجار/ الأطفال/ رقرقة السواقي/ بيادر الحنطة بالخلود؟». وإذا كان خوري يسأل «متى»، فلأنّه يستجيب لجسده المسكون بهاجس الرحيل والنهاية، النهاية التي يبدّدها خوري بإيمانه أنَّ الحياة تعيد تشكّلها أبداً ولا تنتهي: «كيف أزول وساعداك الوعدُ؟/ عجز المفاصل يدقّ جرس الرحيل». ويقف خوري تحت صوت المعلّم، ويضيء له لغة الوفاء، لأنه يأتي المعجزة من بابها الواسع، ويعلّق قوافيه قناديل في أشجار الأحراج: «جعبة ملأى بالمعجزاتِ/ أشعاره قناديل الأحراج»... ولا شكَّ في أنَّ المعلّمَ هو بعضٌ كثيرٌ من شكيب خوري الحامل صومعته على كتفيه، الواجد مراياه في ظلال الأسئلة الكبيرة: «في صومعته ينبعث السؤال/ ترتجف الحروف/ ينخطف/ على وسادة الأرق».
وبين بوح وآخر، يتضّح ثقل الزمن على كتف خوري، ويتكثّف هاجس الرحيل، وتنتشر مفردات خريفيّة المزاج، فالمفاتيح فقدت قدرتها على الفعل، والصدأ وحده يطلُّ من النوافذ، والصقيع الصحيح النسبة إلى الثلج ينبض في ساقي الزارع، والرجاء يضيق بما غزاه من شيب ليصير الكفن أوّل الداخلين من الباب: «مفاتيح رعناء/ نوافذ صدئة/ صقيع يستوطن ساقي باذر الحنطة/ رجاء عجوز/ يذوب شمعة على العتبة./ الكفن يجلجل الباب». ويستمرّ خوري مجذّفاً في ذاته، فرحاً بأيقونة الماضي على صدر عمره، ليؤدّي في قصيدة «الحطّاب» دوراً إنسانيّاً رائعاً. فدموع الأغصان في المواقد تسترجع زمن العشب والفراشة، والصبيّة تزيد القمح على البيدر ذهباً وقدرة على الإشباع، والمعول يملأ حضن الوعر بالثمار: «يتذكّر الحطّاب راعياً يغنّج المراعي/ فراشة تداعب شفتيه/ صبيّة مغناجاً ترقص على البيدر/ معولاً يعد الوعر بالثمار». في هذه القصيدة يضجُّ انتماء خوري إلى الطبيعة، إلى القرية اللبنانية، إلى ذاكرته التي تدعوه صباح مساء لولائمها الفردوسية المجسِّدة زمناً امتلأ إلى حدِّ أنه لا يعاد: «يتذكّر الحطّاب سحابة في عبِّ الزيزفون/ خيط النهار من خلف التلال يغرّد/ ملكة النحل ترضع نهد البيلسان/ عصافير تغرّد بطاقات البيوت». شكيب خوري حطّاب صريح وصادق كالفأس، شهيٌّ كلمعان حدّها. وقاطع حتّى آخر الجرح في لحم الكلمة. وهذا الحطّاب يكتب القصيدة ليستردَّ زمناً ويُسكنه ضمير اللغة البانية أعشاشها على أغصان القلب الحمراء: «يتذكّر الحطّاب صرخة طفلته/ فجْرُ ولدتْ/ يوم رفرفت لألأة النبع مع ورق الحور/ وانتشت عيناها بثمار الكون»... وفي وجوه أولاده والأحفاد، يزرع خوري «العتابا والميجنا» ضحكات، فتعود إليه نشوة الاحتفال بالحياة ولو تحت شيبٍ: «الأولادُ على الموعد/ ضحكاتهم عتابا وميجنا/ تتقِّد سمفونية البهجة/ يتألق اللهب/ ويُقرع الباب:/-مين؟ / - أنا ربيع، جِدّو/ يهرول الحطاب إلى العناق». ويعرف شكيب خوري كيف يدلّ بإصبع أبيض على أقلام سوداء، فيحاول تخليص صباح الشّعر من أقلام تدّعي شموساً لم يعانقها حبرُها يوماً، فالورق يحترف الفضيحة، والكلمة تصفع من يشدُّها قسراً إلى جملته: «أكاذيب أقلام تلوِّثُ صباح الشّعر/ الأوراق تفضح أدمغة المنتحلين»، ويرجع خوري إلى امرئ القيس المادِّ والفاتح يديه وقلمه لعناق حقيقيّ في حين أنَّ منتحلي الشّعر في يومنا هشاشةٌ كذبٍ، تنتظرهم مشنقة الزمن التي لا يتحكم بحبلها مسؤول عن صفحة ثقافية في جريدة، أو حامل ميكروفون يمضغه يوميّاً على شاشة فضائية: «أنتم نفاق/ امرؤ القيس عناق/ من أيّ حضيض جئتم/ يا خدعة البلد المعاق/ حبل المشنقة بالانتظار/ ناقوس/ دِنْ / دِنْ.» وبعيداً من شعراء الكذبة، يقف شكيب خوري أمام «قائد الأوركسترا» المستحقّ عصاه، راعياً يسوق قطيع النغم في مروج الروح: «من على المنصة يقود جيشه/ تمارينه دعوة إلى ساحة الغمر/ آلاته تتغندر/ تهدر كالأنهار»... وللموسيقى عند خوري يد سحريّة تصنع العناق الصعب: «يتعانق الأزليُّ مع التّرابي»، وللعناق عَرَقٌ خصبٌ أو هو النّسغ الذي لا تنهبه شمس: «عرَقُ العناقِ يسري في شرايين الثمار»... ويتحوّل قائد الأوركسترا نورساً يروي عطشه بالتحليق فوق أناقة الماء، وكائناً ذا طاقة ليست لإنسان فـ «يعصف بأغصان أسرار الكون/ تستسلم الرياح/ ترفع له المشاعل/ ثم ترتوي الأنفاس».في «أنادي التراتيل يردُّ البرق»، يضع شكيب خوري على جملته الشعرية بصماته الأخيرة، لتظهر مكتفيةً بنضجها وفرادتها، راضية عمّا فيها من دهشة لا يقولها إلا رنين أجراس الجمال.