بعد أيام من توقيع بغداد وأربيل اتفاقاً نادراً حول نفط كردستان والموازنة المالية ووضع قوات البيشمركة التابعة للإقليم، توقع المراقبون أن هذه التسوية، بوصفها اعترافاً كبيراً من النظام السياسي بمشروعية الفدرالية، ستنعكس في أوساط سُنة العراق المترددين بشأن إنشاء أقاليم لهم توفر نوعاً من الحكم الذاتي، وتخفف من معاناتهم مع حكومة بغداد.

Ad

إلا أن المفاجأة جاءت من البصرة، إذ قام شباب متحمسون بتصميم علم لـ»إقليم البصرة» خلا من اللونين العراقيين المعتادين، (الأحمر والأسود) واستعار زرقة البحر وخضرة سعف النخيل، وراحوا يروجونه على مواقع التواصل الاجتماعي.

ولم يكن ذلك هو الغريب في الأمر، لكن ما لفت الأنظار هو تحوله خلال ساعات إلى أهم مادة جدل عراقي، جعلت مستخدمي الإنترنت العراقيين الذين تتزايد أعدادهم بشكل ملحوظ، يتناسون أخبار الحرب على «داعش»، والمشكلة الطائفية، والحساسية من نفوذ الأكراد، وينهمكون بالتفكير في البصرة، وفي معنى ظهور حركة «انفصالية» في أكثر مدن العراق ثراءً (نحو ثلثي احتياطي البترول) والميناء الوحيد للبلاد، والمساهم الأساسي في تاريخها الثقافي، وعاصمة الجنوب ذي الأغلبية الشيعية.

وبين سيل الشتائم والاتهامات التي لاحقت البصريين في هذا الإطار، يظهر عنصر مؤثر على المستوى الوجداني. فالمؤمنون بالنظام المركزي الذي يوحّد البلاد شعروا بصدمة لدى توقيع الاتفاق مع أربيل المعترف بحقها في إدارة نفط كردستان، وضمنياً نفط كركوك أيضاً، وبينما هم مشغولون بمعالجة هذا «الجرح الوجداني» فاجأتهم البصرة بعلم أزرق وأخضر ومطالبة واسعة بتشكيل إقليم لا يرضى بأقل من صلاحيات كردستان.

ولم تظهر حتى الآن ردود أفعال رسمية أو سياسية واضحة، على الحملة التي يشترك فيها طيف بصراوي متنوع، لجمع 100 ألف توقيع مؤيد لتشكيل إقليم مماثل لكردستان، وفق خطوات دستورية تنتهي بالاستفتاء الشعبي داخل البصرة، إلا أن الساسة البصريين يواصلون اعتراضاتهم على نقص فادح في الصلاحيات، حيث جمّدت بغداد العام الماضي، عقوداً بقيمة مليار دولار، أبرمتها الحكومة المحلية المنتخبة، بذرائع عديدة، كما أن الشركات البصرية محرومة من أكبر العقود في المحافظة والتي تذهب تقليدياً لأطراف مقربة إلى أحزاب بغداد والنجف، فضلاً عن قيام بغداد بخصم سبعين في المئة من موازنة البصرة للعام الحالي والعام المقبل بسبب نفقات الحرب وأجواء التقشف الناتج عن انخفاض أسعار النفط.

ويشكل سكان البصرة أكثر من 10 في المئة من عدد سكان البلاد، ووفق الدستور فإن حصتها المالية من الموازنة العامة لا تقل عن 10 في المئة، أي نحو 13 مليار دولار من موازنة العام الحالي، بينما لم تحصل فعلياً إلا على ملياري دولار تقريباً، وهي معادلة جعلت أهالي المحافظة يشعرون بصدمة رهيبة حين يستعرض مجلس البصرة هذه البيانات ملقياً باللوم على بغداد في جمود التنمية.

وليس كل البصريين متحمسين لهذه الفكرة، إذ لا توجد حتى الآن أحزاب بصرية يمكنها أن تأتي ببديل سياسي إلى حكم إقليم فدرالي يتمتع باستقلالية فاعلة، وكل الطبقة السياسية تقريباً في البصرة منخرطة مع الأحزاب الدينية العاملة في النجف وبغداد، ولذلك يتوقع هؤلاء بقاء هيمنة الأحزاب ذاتها، لو أجريت انتخابات لاختيار حكومة لإقليم البصرة. إلا أن المراقبين يقولون إن مجرد الشروع في تأسيس الإقليم سينتج أحزاباً جديدة لا ترتبط بالنجف وبغداد، للتفرغ لإدارة ثروة طائلة وصلاحيات واسعة لم تعرفها البصرة منذ انهيار نظام الولايات العثماني قبل 100 عام. والشيء الذي بات واضحاً اليوم، أن التطور السياسي في العراق وداخل اللعبة الطائفية المعقدة، سيشهد صراع مصالح شيعياً - شيعياً، بين النجف كمركز ديني، والبصرة المركز التجاري ذي الأغلبية الشيعية، وهو مسرح سيكشف معظم التناقضات السياسية، ويختبر قدرة النظام السياسي على استيعاب غليان غير مسبوق في البصرة.