منذ منتصف التسعينيات كنتُ تحت وطأةِ أزماتِ صحية متتالية. لم يكن بي ضعفٌ جسدي على الحقيقة، ولكن للأسى الروحيَّ الذي تخلّفه رهبةُ الموت ظلاً كفيلاً، بفعلِ كثافته، بأن يتركَ الجسدَ متعباً. أتجنّبُ الكأسَ، إلا واحدةً أشربها، عربونَ وفاءٍ للكأس التي أحب. أتجنّبُ العواطفَ الطائشة، أحاصرُ خميرتها في داخلي محاصرةَ الطائر في قفص. أتجنّبُ المغامرةَ التي تضجُّ حيّةً في ذاكرتي.

Ad

    في حالٍ كهذه سافرتُ إلى المغرب، طمعاً بالشمس، ودفءِ الصحبة، وطواعية الاستجابةِ الرقيقة في الطبيعة والإنسان المغربيين. لي حفنةٌ من أصدقاء هناك، كنتُ موطنَ حفاوتهم، ولمعرفتهم بأني أحبُّ السمكَ مع النبيذ الأبيض، دُعيت إلى مطعم على البحر، خاصٍ بالسمك في مدينة كازا، يُدعى "مطعم الميناء". كنا قرابة عشرةٍ من الكتّاب، هم يكرعون الكؤوس، وأنا أحتسي الكأس قطراتٍ متباعدةً، حرصاً على المواكبة. حين انتهينا وانفرط العِقدُ، طلبَ مني محمد زفزاف، القاص الذي لم ينقطع طوال الجلسة عن العبث بلحيته الطويلةِ الكثة، أن أصحبَه في جولةٍ ليلية، قبل أن أعود للنوم في فندق "باريس". وافقت وبي قلق من يُطلُّ على هاوية. لأن زفزاف كان يردّدُ على مسمعي: "لابد أن تجربَ شوارع كازا الخلفية".

    دخلتُ معه خماراتٍ بالغةَ العَتَمةِ، بفعل قلةِ الإضاءة، ودخانِ السجائر، وكثافةِ الأنفاس. الخماراتُ التي دخلناها تزدحم بنساء الليل أيضاً. وزفزافُ يطلب كأسَ النبيذ عند كل خمّارة، وأنا أعتذرُ عن عدم المشاركة. ولكنَّ في داخلي تدبُّ مشاركةٌ من نوع مختلف، أكثرُ استغراقاً. مشاركةٌ ذاتُ طبيعة درامية، صراعُها داخليٌّ بين جموحِ الرغائبِ وبين عِقالها.

    حين عدتُ إلى فندق باريس كنتُ مخموراً داخل مخيّلتي، والمصطرعُ في داخلي يضجُّ بالأنخاب، وكأني أحتضنُ امرأةً نصفَ عارية، ولكن جسدي على ساحلِ الرغبةِ في مناجاة لا تنقطعُ مع الأمواج.

    في اليوم التالي رأيتُني "فاوست" (استعدته من عمل "ﮔوته")، وهو يُمْلى على الورقِ فوق طاولةٍ داخل غرفة الفندق، وحاولتُ جاهداً أن أرى محمد زفزاف "مفيستوفَلِس"، وهو يغذّي لديَّ الرغبةَ الجموحَ للتجرّدِ خفيفاً من أسارِ المعرفةِ وقناعاتِ العِلْم، والغرقِ في حُمّى اللذائذِ الدنيوية، التي هي عماد الخبرة. ولكن الدراما داخليةٌ، ما إن تلاشت في الأعماق حتى راحت تتشكّلُ في شباكِ اللغة الشعرية. لذلك أصبح "مفيستو" صوتاً في أغنية، تتكرر مرتين:

إن كنتَ فتياً مثلي/ فلنقْتسمِ الأسمالْ،

ولتُقْحمْ خطوَك قبلي/ في هذا الدربِ الضالْ،

ولنتشرّد.

وأصبح "فاوست" صوتَ المتحدث داخل القصيدة، ليرى نفسه مثل "نسر عربي":

صافَ وأشْتى في الزمنِ الضائع،

لم يضربْ جُنحاً فوق وِهادْ،

يتأمّلُ مشرقَ شمسٍ لم تُشرقْ،

ومغيباً منفضةَ رمادْ.

 لقد كان حضورُ "فاوست" من قصيدة "ﮔوتة" الدرامية ومضةً خاطفة، سرعان ما تلاشت في كيان الشاعر. فهو ينحدر إلى عالم الرغائبِ الحسية راقصاً:

ورقصتُ أنا حولَ امرأةٍ فَتَنتْ شعري

بحرارةِ جسدٍ لم يُدفئْ جسداً غيري.

ولكن عودته إلى"فندق باريس" وحيداً، أيقظته على عزلته: فراح "يندب حظَّ الجسدِ الزائل/ في خلوةِ صوفي تسكنها الفئرانْ."

مترنحاً عدتُ إلى فندق باريس، ورأسي قبضُ الريحِ.

مزّقتُ الشعرَ، ورحتُ أفتشُ عن معنىً لتباريحي:

أأنا مجنونُ امرأةٍ خطرتْ لحظةَ نومٍ خاطفْ!

أم ميتٌ، منذ ولدْتُ، وهذي المرأةُ نعناعٌ فوق ضريحي!

يأسى، لأنه لم "يبعثر الورق التالف في قبو قراءاته"، ولم يوقّع "العِقدَ الأسود بين دمه ودم الشيطان". وضعتُ أنويةَ للقصيدة في مدينة كازا، وأكملتها في لندن (نُشرت في الأعمال الشعرية بعنوان "فاوست في مدينة كازا"). السؤال في رأسي بقي مُحيّراً: هلْ ينتسبُ فاوست القصيدةِ لي، أم أنتسبُ لفاوست القصيدة؟