بعد جولة متأنية في تاريخ الأديان الرسالية الثلاثة، وما آلت إليه من ارتباط بالسياسة ثم الانسياق إلى العنف، يختم يوسف زيدان كتابه «اللاهوت العربي» بما يشبه الخلاصة التي عنونها بـ«جدلية العلاقة بين الدين والعنف والسياسة»، فرغم أن مدار السياسة هو الحاكم، ومدار الدين هو «الإله»، فإن هناك تواشجاً مفروضاً بين دائرتيهما بسبب ارتباط كل منهما بطبيعة التكوين الاجتماعي.
أما آلية هذا الارتباط بين الدين والسياسة فتكاد تكون واحدة عبر التاريخ الإنساني. فغالباً ما تبدأ الديانات بانبثاقة فوّارة لفكرة أو عقيدة، بينما يكون النظام السياسي السائد قد تشكل ببطء في زمن سابق حتى استقر على نحو ما قبل ظهور هذا الدين. وهنا يحدث الانقلاب الأول في مجال الجدل (الديني/ السياسي)، لأن الدين الجديد نظراً لطبيعته الانبثاقية لا يقرّ النظام السياسي القائم، ويسعى لخلخلته أو تقويضه التام، ليفسح مكاناً لنفسه بين الجماعة.وفي مرحلة لاحقة يبدأ العنف في الدخول كطرف ثالث، وهو عنف موجه من النظام السياسي إلى الدين الجديد في محاولة لردعه. وهنا يحاول أصحاب الدعوة الجديدة الذين لايزالون في طور النشأة، الحفاظ على مكتسباتهم، فيختارون الخروج إلى أرض محايدة لإعادة تنظيم صفوفهم وخططهم. وهنا ينتاب السلطة السياسية لون من الرضى المؤقت والاقتناع الزائف بأن الدين قد هرب من المواجهة ولم يعد يمثل تهديداً لهم.في مرحلة الكمون هذه قد يهدأ العنف تدريجياً في مركز السلطة السياسية، بينما يتنامى حجم الدين في الأرض التي تم الخروج إليها، وينتظم شأنه انتظاماً داخلياً على نحو مغاير للنظام السياسي القائم. ثم بعد حين يقوى الدين وأتباعه ويعود ليطيح بالنظام السياسي من خلال العنف أيضاً، بل يعود ليطرح على النظام (القديم) سبلاً جديدة لاقتسام السلطة والنفوذ، ونظماً جديدة غالباً ما تكون أكثر ملائمة للجماعة المتدينة. ويعود أكثر قدرة على التفاوض والتراضي مع النظام السياسي القائم، فيصير الدين مع مرور الوقت مَلَكياً!إلى جانب هذا السرد العام لآلية «الدين/ السياسة/ العنف» في الانبثاقات الكبرى للأديان، يعرّج المؤلف على ما سمّاه «الانبثاقات الجزئية» التي تتم في إطار المنظومة الكلية للدين السائد، ويمثلها في عصرنا الجماعات السلفية المتشددة بمسمياتها المختلفة.وفي هذه الحالة يصير الجدل الديني/السياسي معقداً ومرهقاً، وتتسارع عجلة العنف بفعل تغذية الطرفين للنار التي شبّت بالحقد المتبادل، الذي يصير معه العنف لدى الجماعة الدينية «جهاداً مقدساً»، ولدى السلطة السياسية «معركة بقاء» لا يجوز مناقشة دوافعها ومشروعيتها.في الأوراق الأخيرة من كتاب «اللاهوت العربي»، يقدم المؤلف رؤيته الشخصية لعلاج ظاهرة العنف الديني/السياسي بطرق أكثر عقلانية وتحضراً، فيقترح ضرورة التفهّم وفهم طبيعة ما هو ديني وما هو سياسي كل على حدة، رغم الاعتراف بالتشابك القديم بين جوهريهما. ولكن تظل فرصة التعايش بين ما هو سياسي وما هو ديني قائمة ومفعّلة وفي خدمة الحاجات الضرورية لسيادة النظام الاجتماعي، بحيث لا يجور أحدهما على الآخر أو يستولي على مواقع ليست من اختصاصه.أما الاقتراح الثاني فهو ضرورة الاعتراف بحق الآخر في الاختلاف، والكف عن محاولات وأد الظواهر الدينية الوليدة بالقوة والعنف، لأن هذا المسلك يزيد النار أواراً، بينما الفهم والتفهم قد يحصر المسائل في قنواتها المحدودة. أما المقترح الثالث فهو إتاحة الفرصة أمام هذه الجماعات للإظهار العلني بدلاً من الاستتار المنذر بالعواقب الوخيمة. والمقصود بالإظهار أن تكون هناك آليات للمكاشفة العلنية، بدلاً من آلات القهر المتوعّدة، وبدلاً من المواجهات الحوارية الصدامية بين رموز»الدين/الدنيا».ومسألة «الإظهار» التي يقترحها المؤلف تقتضي الإقرار بالتعدّدية، والإيمان بتنوّع التجربة الإنسانية. فالسبيل إلى حلّ تلك المتناقضات وتقليل قابليتها لإشعال فتيل العنف يبدأ بالاعتراف بها، ثم الحرص على التحاور العلني الدائم معها.
توابل - ثقافات
اللاهوت العربي (4–4)
09-09-2014