قبل أسبوعين حصلت على نسخة من كتاب ماريوس كوتشيوفسكي الجديد God’s Zoo، (صادر عن دار Carcanet ويتضمن 438 صفحة) في حفلة توقيع. العنوان الجانبي للكتاب «فنانون، منفيون، لندنيون» يلخص محتواه. فماريوس انتخب 15 مبدعاً من حقول عدة: الشعر، الفن، الموسيقى، السينما، وشاءت أقدار التاريخ العمياء أن تُهجّرهم من بلدانهم (هنغاريا، العراق، تركيا، أيرلندا، روسيا، البرازيل، زيمبابوي، إيران، الهند، الصين، سورية...) لعللٍ شتى، وتفتحَ لهم ملاذاً في لندن. فهم لندنيون، ولكن بسيماء المنفيين. وهي صيغة تنطوي على مفارقة لا تخلو من مذاق الأسى العميق. فهم سعوا إلى هذه المدينة، وارتضوا الإقامة فيها، مع معرفتهم بأنها لن تكون مدينتهم البديلة، ولا فردوسهم المفقود. هذا الأسى تقرأه في ثنايا كل حوار أجراه ماريوس معهم، وهو حوار يتمتع بفطنة وطلاقة خيال، وحرارة عاطفة، وسعة معرفة. وهي مواصفات فن المقالة easy، التي برع فيها المؤلف. كل فصل بورتريت يتجاوز ثلاثين صفحة من القطع الكبير، مُطعّم بصور الفوتوغراف واللوحات، التي يحب المؤلف أن يحيطها بالتعليق والتحليل.

Ad

فصولُ الكتاب أشبه بمرايا مهشمة تُحيط بالفنان المنفي. كل مرآة تعكسه عبر شظاياها بصورة تكعيبية، وتعبيرية في آن. لأن المؤلف لم يحاول الأسئلة الجاهزة، بل اعتمد المحادثة التي تتيح مدى حراً. المنفى عادة ما يبدأ بذريعة ملموسة، كالاضطهاد السياسي مثلاً. ثم سرعان ما تُصبح الذريعة متاهةً لا مخرج منها. وهذه المتاهة بجملتها تبدأ تشف عن بعدها الميتافيزيقي.

 أنت تشعر أن كل واحد من هؤلاء، وهو في وطنه، كان متأهباً للاحتجاج، بفعل حساسية استثنائية. هذا الاحتجاج إنما يعكس عدم رضا بالغ الغموض بفعل اتساعه. إنه ليس ردة فعل مباشرة إلا بصورة محدودة. بل هو فعل شأن كتابة القصيدة، وتنفيذ اللوحة، وإخراج الفيلم، وتأليف العمل الموسيقي. ردة الفعل عادة ما تكون سريعة الزوال، وفعل الاحتجاج ثمرة حكمة باقية. ولذلك ترى هؤلاء الذين انتخبهم ماريوس عن دراية غير منتمين. لأن منفى العقائدي هو ردة فعل، لا فعل. وطبيعته النفعية تجعله زائلاً بفعل زوال العلة. ولذلك فهو «منفيّ سياسي»، لا منفي بالمعنى المطلق، الذي يتعرض له الكتاب. حتى الشاعر الصيني ليو هونـﮔبِن، الذي اشتهر كمعارض سياسي مُنشق بعد مذبحة «ساحة تيانانمَنْ»، وهرب إلى الغرب، تراه يشكو بأنه ظل يُعامل طوال عشرين عاماً من منفاه على أنه منشق لا شاعر. إنه يرغب في صفة الشاعر، التي تتطابق مع صفة المنفي.

 منفى الفنان يبدأ مع أول فعل إبداعي، يجعله يشعر بأن «الحياة نفقٌ طويلٌ مثير للخوف»، على حد تعبير المخرج السينمائي راجان خوسا. ثم يرتسم وجه السلطة غير العادلة داخل النفق، وضيقُ أفق المجتمع، حتى تحين لحظة الرحيل. ولندن كملاذ توفر أكثر من مصل يغذي منفييها بعمق الأبعاد لمعنى منفاهم، فقانونها كريم، ومجتمعها غير منفتح، والنظام system فيها قاس، والمعرفة غزيرة. وهذه التعارضات توفر زمناً في غاية التعقيد. زمنٌ يصبح محوراً في الكتاب، رابطاً مشيمياً بين كل مبدعيه، على اختلاف أجناسهم وأماكنهم.

ماريوس كوتشيوفسكي (1949) شاعر وكاتب، سبق أن تعرضت له في عمودي هذا مرتين: الأولى حين عرضت لكتابه «فيلسوف الشارع والبهلول المقدس: الرحلة السورية»، والثانية حين ترجمت له قصيدة جميلة بعنوان «شيراز»، وعلّقت عليها. وهو في كتبه جميعاً يتمتع بأسلوب يسعى إلى ما وراء الظاهر، وبسعة معرفة تبعث النشوة، وخفة دم لائقة. وفي كتابه الجديد هذا تجد فيض معرفته تتناغم مع الجميع، كلٌّ على حدة: في الشعر مع الشاعر، والفن مع الفنان، والموسيقى مع الموسيقي، والسينما مع السينمائي. والمعرفة لا تُغنيها عن روح الدعابة. ينقل عن الشاعرة الأيرلندية مارتينا إيفانس وهي تتحدث عن أمها: «كانت رائعة بصورة ما وفظيعة أيضاً. فأنت تستطيع أن تهاتفها وتترك الهاتف مفتوحاً، وتغادر، تسقي الحديقة، تذهب إلى التسوق، ثم تعود لتكنس المنزل، وهي لا تزال تتحدث. ولا تكاد تسحب نفساً، وإذا ما حاولت مقاطعتها تقول لك: هل لك أن تدعني أتحدّث؟!»