رأي : نظرة على العوامل الأساسية الثلاثة: الانفصال والانكماش والطلب

نشر في 03-04-2015
آخر تحديث 03-04-2015 | 00:01
 بلاك ستون عند النظر إلى حالة المشهد الاقتصادي في المستقبل القريب، على مدى بضع سنوات، نجد أن عوامل رئيسية ثلاثة تحدّد مستقبل الاقتصاد والاستثمار، هي: الانفصال (decoupling)، والانكماش (deflation)، والطلب (demand).

ويستند مفهوم الانفصال إلى السؤال التالي: "هل يمكن لاقتصاد الولايات المتحدة، أن ينمو بمعدل يقارب 3 في المئة إذا كانت بقية مناطق العالم في حالة ركود، أوتشهد نمواً ضئيلاً؟". ويتعلق الانكماش بتراجع أسعار النفط والسلع الأخرى، بالإضافة إلى استعداد أو حاجة العاطلين عن العمل في جميع أنحاء العالم للقبول بأي وظيفة تقريباً بغض النظر عن مستوى الراتب.

أمّا المفهوم الثالث الذي قد يكون الأكثر أهمية، على الرغم من أنه الأقل مناقشة، فهو وجود طلب كافٍ على السلع والخدمات في جميع أنحاء العالم لتوليد نمو متواضع على الأقل، وتوفير فرص عمل كافية في البلدان الصناعية الكبرى. وتشير معظم التقديرات حالياً إلى معدل يقل قليلاً عن 3 في المئة لنمو الناتج الإجمالي الحقيقي العالمي هذا العام، لكنّ الانكماش الذي ذكرناه آنفاً قد يؤدي إلى خفض ذلك المعدل.

بدأ مفهوم الانفصال بين الاقتصاد الأميركي وبقية الاقتصادات ينتشر رويداً رويداً. فنتيجة للانخفاض في أسعار النفط وارتفاع الدولار، خفض الاستراتيجيون تقديراتهم لنمو الاقتصاد الأميركي الكلي إلى نحو 2 في المئة، وقلص المحللون تقديراتهم للأرباح التشغيلية السنوية للشركات المدرجة في مؤشر ستاندرد آند بورز SandP 500 من 125 دولاراً إلى نحو 120 دولاراً للسهم، بعدما بلغت 118 دولاراً عام 2014.

يُذكر أنّ أسهم شركات الطاقة تشكل نحو 12 في المئة من وزن المؤشر وتسهم بنحو 6 في المئة فقط من الأرباح المقدّرة، لكنّ المحللين في كل البلدان يخفضون تقديراتهم لأرباح شركات خدمات النفط والطاقة. ويمكن تبرير تقليص توقعات الأرباح أيضاً بقوة الدولار التي ترفع التكاليف وتخفض قيمة الأرباح التي تحققها الشركات الأميركية العاملة في الخارج.

وتعزز الظروف الجيوسياسية أجواء الغموض وعدم اليقين، فقد تحركت القوات المدعومة من روسيا بقوة في أوكرانيا، ويعيش ذلك البلد حالياً هدنة هشّة، مع تجميد القتال على خطوط سيطرة تمنح الرئيس بوتين معظم ما يطمع به من مناطق. وفي الشرق الأوسط، نجحت القوات الكردية في استعادة مدينة مهمة من تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام - داعش"، لكنّ تهديد المتطرفين الإسلاميين ما يزال خطيراً في المنطقة. وبعد رحيل الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود وتولي الملك سلمان مقاليد الحكم في المملكة العربية السعودية، ظهرت بعض المخاوف إزاء مستوى إنتاج النفط في المستقبل. أما الموعد النهائي للتوصل إلى اتفاق مع إيران حول التراجع عن برنامجها النووي فكان يوم 24 مارس، لكنّ التقدم في المفاوضات كان صعباً.

وفي أوروبا، أعلن البنك المركزي الأوروبي عن برنامج للتيسير الكمي يبدأ هذا الشهر، لكن ليس من الواضح ما إذا كان سيكفي لإبعاد شبح الركود والانكماش عن القارة. وتوصّل قادة الحكومة اليونانية الجديدة إلى تسوية مؤقتة مع دائني البلاد لتمديد برنامج المساعدات الحالي أربعة أشهر أخرى. ولم يكن لدى حكومة حزب سيريزا أيّ خيار آخر، لأن تدفقات الأموال من البنوك كانت تهدد النظام المالي لليونان، وكادت الحكومة تعجز عن دفع رواتب موظفيها والمعاشات التقاعدية.

وبسبب هذا المزيج من الأحداث والتطورات الإيجابية والسلبية، فقدَ المستثمرون شيئاً من ثقتهم وتفاؤلهم، وتحولت معنوياتهم في الولايات المتحدة من التفاؤل إلى الحيادية، وهي تتجه الآن نحو الاستقرار عند حالةٍ من الحذر من شأنها أن توفر برأيي أساساً لسوقٍ أفضل في وقتٍ لاحق من هذه السنة، إذا تحوّل الإطار العام للأسس الاقتصادية إلى الإيجابية، على الرغم من المشاكل الاقتصادية في الخارج. فعادةً ما يكون أداء الأسهم أفضل عندما يكون المستثمرون قلقين، وليس عندما يكونون مفرطين في التفاؤل.

أمّا السبب الثاني للقلق فهو موضوع الانكماش. ففي الولايات المتحدة، كان معامل انكماش الناتج المحلي الإجمالي في نهاية العام سلبياً عند مستوى 0.1 في المئة. وفي أوروبا، انخفض مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 0.6 في المئة. ومن المرجح أن تتصاعد مخاوف الانكماش مع صدور البيانات الاقتصادية غير المشجعة في الأشهر القليلة المقبلة. وحتى في الصين، بدأت الدعوات للتيسير النقدي تتصاعد بعد العلامات الأخيرة التي قد تشير إلى خطر الانكماش. لكنني أعتقد شخصياً أن سبب الانكماش يرجع إلى حد كبير إلى الانخفاض الحاد في أسعار النفط، والتي تهاوت إلى أدنى مستوياتها بانخفاض تجاوز 50 في المئة عما كانت عليه قبل عام. وفي حين أن انخفاض سعر النفط قد يفيد المستهلكين، فإنه يؤدي إلى تزايد المخاوف من انكماش الاقتصاد. لكننا نجد الآن بعض المؤشرات الإيجابية التي لا تصل إلى مستوى الأدلة القاطعة، مثل الانخفاض الحاد في عدد منصات النفط العاملة، ما يعني أنّ سعر النفط لن ينخفض أكثر من ذلك. وإذا بدأت أسعار النفط بالارتداد، فإن خطر الانكماش سيبدأ بالتراجع. لكن في المقابل، قد يؤدي امتلاء المستودعات ووفرة المعروض عالمياً إلى مزيد من الانخفاض في أسعار النفط، إذ لا بد من بيع الإنتاج الفائض بأي سعر.

ويبدو الوضع في أوروبا أسوأ إلى حد ما، إذ يميل كثير من المستهلكين إلى الحذر بسبب الصراع في أوكرانيا والقلق من المطامع التوسعية الروسية. كما ألقت الهجمات الإرهابية في فرنسا بظلالها على المزاج العام هناك. وعلى الرغم من أنّ اليونان ليست سوى بلدٍ صغير في الاتحاد الأوروبي، فإن احتمالات العجز عن السداد والانسحاب من الاتحاد ستكون لها عواقب سلبية بالنسبة للقارة. فضلاً عن ذلك، فإن معدل البطالة في أوروبا هو ضعف مثيله في الولايات المتحدة، مع بطالة في صفوف الشباب تبلغ ضعف المعدل العام، وهذا سيؤدي إلى مزيد من الانكماش في الاقتصاد. وبرأيي أن الانكماش لن يكون مشكلةً طويلة الأمد في الولايات المتحدة أو الصين، لكنه قد يستمر لفترة طويلة في أوروبا.

عموماً، لا أتوقع أن يكون للانكماش دورٌ رئيسي في الاقتصاد العالمي هذا العام، حيث ستبقى أسعار الفائدة منخفضة بالتزامن مع زيادة المعروض النقدي في كل مكان تقريباً، وهذا يُضعف توقعات الانكماش.

أما العنصر الأخير، أي الطلب على السلع والخدمات، فهو الأكثر غموضاً والأصعب إحاطة. فالتوسع النقدي إلى جانب النمو السكاني يدعم في العادة توقعات نمو الطلب على المنتجات والخدمات. كما أنّ الطبقة الوسطى في المناطق الأفقر نسبياً في العالم، مثل الهند والصين، تتوسع بسرعة. لكنّ المشكلة هي أن المعروض من المنتجات المصنّعة يتزايد أيضاً، ولا يبدو أنّ الدخل العالمي ينمو بسرعة كافية لشراء كل تلك البضائع دون تخفيض أسعارها.

وقد تبرز هنا أيضاً قضية فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء، حيث ينفق أصحاب الدخل المرتفع نسبة أقل من دخلهم على السلع والخدمات مقارنة مع أصحاب الدخل المتوسط أو المنخفض. ففي الولايات المتحدة، كانت شريحة الـ 1 في المئة الأعلى دخلاً عام 1980 تستحوذ على حصة تقارب 8 في المئة من إجمالي الدخل في البلاد. لكن تلك الحصة التي تعبّر عن فجوة الدخل ارتفعت إلى نحو 19 في المئة عام 2010.

وتبقى المسألة الأهم على المدى القريب، هي حالة الإطار العام لأساسيات الاقتصاد العالمي. ففي الولايات المتحدة، ظهرت أخيراً علامات مقلقة، مثل تراجع طلبيات السلع المعمّرة بنسبة 3.4 في المئة في شهر ديسمبر. وكان من المفترض أن يكون الإنفاق الرأسمالي والإسكان من الأمور الإيجابية للاقتصاد في العام 2015. وبالحديث عن الإسكان، فإن زيادة فرص العمل للفئة العمرية من 16-34 عاماً "المسؤولة عن معظم حالات تأسيس عائلات جديدة" هي علامة إيجابية نجد أثرها في البيانات الأخيرة لرخص بناء المساكن الجديدة، والتي وصلت الآن إلى معدل سنوي يتجاوز مليون مسكن.

وارتفعت أسعار المنازل في الوقت الذي انخفضت فيه أسعار الفائدة على القروض السكنية، وهي عوامل ينبغي أن تساهم في المحافظة على الزخم الإيجابي لقطاع الإسكان. وكانت حالات تأسيس عائلات جديدة ارتفعت بشكل لافت في الربع الرابع من العام الماضي، وهي علامة مبشرة بالنسبة للإنفاق على السلع المعمرة والمساكن.

فضلاً عن ذلك، نجد بعض الأخبار الطيبة من القارة الأوروبية، حيث سجّل الاقتصاد الإسباني نمواً جيداً للناتج المحلي الإجمالي في الربع الأخير بلغ 2.8 في المئة، وأظهرت مبيعات التجزئة بعض التحسّن، كما ارتفع الإنفاق الاستهلاكي في فرنسا، وتحسنت التوقعات الاقتصادية في ألمانيا مع قوة الصادرات الناجمة عن انخفاض اليورو، وارتفع مؤشر ثقة المستهلكين في إيطاليا. وحدث كل ذلك حتى قبل بدء تنفيذ برنامج التحفيز النقدي الذي أعلن عنه البنك المركزي الأوروبي.

وعلى الرغم من تباطؤ الاقتصاد الصيني، لكنه ما يزال ينمو بوتيرة أسرع من معظم الأسواق الناشئة، وهو الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وتتيح نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي للصين تنفيذ مزيد من إجراءات التحفيز. وكان للاقتصاد الياباني نصيبه من البيانات والأخبار الإيجابية، حيث ارتفعت الصادرات بشكل كبير. وهكذا فقد يكون هناك بعض المؤشرات على عودة الارتباط بين اقتصادات العالم، بدلاً من الانفصال، حيث نرى بعض علامات القوة في أوروبا واليابان.

وفي نهاية المطاف، فإن أكثر ما يقلقني، إمكانية زيادة العرض على الطلب في السنوات المقبلة، وليس التفكير بالانفصال أو الانكماش. لكنني عندما أنظر إلى كل هذه البيانات الاقتصادية، لا يسعني إلا أن أتساءل عما إذا كانت التوقعات الاقتصادية العالمية سيئة فعلاً إلى الدرجة التي يتوقعها مجمل المحللين؟.

* بايرون واين ، نائب رئيس شركة بلاك ستون

back to top