الشباب والكتابة بالعامية
دار لغط كبير حول كتابات الشباب الكويتي في معرض الكتاب الأخير، وانصب جزء من ذلك النقاش على الكتابات الروائية باللهجة الكويتية. وبعيداً عن مضامين تلك الروايات، ومدى قدرتها على تحقيق شرطها الفني، فإنني أرى أن الكتابة باللهجة العامية في وقتنا الحاضر بمنزلة انتحار للكاتب، خاصة في كتابه الأول.الساحة الثقافية العربية في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات، كانت متفاعلة وتغلي بقضاياها، وعلى رأسها الحلم بوطن عربي موحد من الخليج إلى المحيط، بعد تحرير كامل التراب الفلسطيني. لكن مطرقة الزمن والخيبات حطّمتا ذلك الحلم، حتى أصبح الواحد فينا، وأنا هنا أتكلم عن أبناء جيلي، يتجرع أخبار الصحف قارئاً حروب الطوائف والدين في معظم الأقطار العربية، وصار الواحد فينا يحلم بقطر عربي موحد بعيد عن العنف الأسود والتهجير والدم والقتل. ما عاد حلم الوطن العربي الموحد يلوح في الأفق، بل صغرت مساحة الحلم حتى صار الواحد فينا يتمنى وحدة وطنه.
الشعوب العربية في كفاحها العجيب للبقاء على قيد الحياة، وكتابة تاريخ جديد لبلدانها، ما زالت قادرة على المثاقفة والكتابة والقراءة، رغم أن الانتفاضات العربية منذ عام 2011 نحرت الثقافة والإبداع العربيين، وشتتت أبناءهما. وصار البعض ينظر إلى الإبداع والفن بوصفهما شيئا من البطر وربما قلة الحياء. كيف بإنسان لا يأمن على نفسه، ويجزع كل يوم ألف مرة من أجل قطعة خبز وشربة ماء، أن يلتفت إلى قصة ورواية وقصيدة ولوحة وفيلم. تبعثر كل ما يربط العربي بالعربي، ولم يبق لنا إلا اللغة، وحدها اللغة العربية تجمعنا حول زادها، ووحدها أقوى بكثير من أن يعصف بها الخراب، وأنها في زمن الزلزال تقف شامخة تقول كلمتها، وتضيء شمعة في ظلمة اللحظة الموجعة. لا يمكن للسوداني أن يفهم اللهجة الكويتية، ولا اليمني بقادر على قراءة اللهجة التونسية، ولا الكويتي سيفهم لهجة الجزائريين، وقس على ذلك، لكن كل عربي سيفهم أخاه العربي متى ما تكلما العربية وكتبا بها. لذا فانحراف كاتب كويتي عن جادة اللغة العربية، واتجاهه نحو اللهجة الكويتية هو انتحار له، أو كتابة للخاصة من أصدقائه، وفي أفضل حالاتها كتابة لا تتعدى حدود الكويت.الكتابة ممارسة حياتية، وكل ممارسة تحتاج لأصول وتدريب، وتنضج بالخبرة. لذا فإن أي كاتب يقول إنني كاتب عربي، سيناقض نفسه حين ينتمي للهجته المحلية، ويتخلى عن وطن وشعوب عربية عظيمة تصارع من أجل البقاء، ولا تفهم إلا عربيتها الأجمل.أدرك تماماً الأسباب التي دفعت البعض من كتّاب الرواية الشباب في الكويت إلى الكتابة باللهجة العامية، ومن بينها ضعف الرقابة الأسرية على صلة أبنائهم باللغة العربية، عبر المناهج الدراسية وعبر قراءاتهم وعبر أحاديث العائلة. يضاف لذلك أن مجموعة ليست بالقليلة من الكتّاب الشباب ليسوا على علاقة جيدة بالقراءة، والقراءة العربية تحديداً، والوضع يصبح أكثر تعقيداً حين نتكلم عن علاقتهم بقواعد اللغة العربية. وأخيراً فإنني أقف حائراً ومتألماً أمام شابة أو شاب كويتي أبدأ الحديث معه، فيهز برأسه قائلاً: «أنا لا أتكلم العربية»، ويضيف مبرراً: «درست في مدارس أجنبية».اللغة طريقة تفكير، ومن لا يعرف اللغة العربية فإنه لا يفكر بها ولا يحلم بها. وكم يلزمنا شباب يفكر بالعربي ويكتب بالعربي ويحلم بالعربي. فبلداننا العربية لم تكن في يوم من الأيام تعيش وضعاً مأساوياً، وتعبر دهليزاً متعرجاً ومظلماً كما هي اليوم، وليس لنا من قطعة حلم نتعلق بأذيالها إلا شبابنا، وكيف يمكن التعلق بأذيال شاب لا يعرف ماذا تقول له؟