مارتينا: شاعرة في الكيان وفي النص

نشر في 01-01-2015
آخر تحديث 01-01-2015 | 00:01
 فوزي كريم  تعرفتُ على مارتينا إيفان، الشاعرة الأيرلندية التي تقيم في لندن، حين جمعنا ماريوس كوتشيوفسكي في فصلين من كتابه God’s Zoo، الذي عرضتُ له في عمودي هذا (4 سبتمبر).

 وحدث أن قرأنا شعراً في أمسية واحدة أكثر من مرة. دعتني مرة مع عدد من أصدقائنا إلى بيتها، واستعداداً لذلك كتبت لي قبل شهر من الموعد، عدداً متتالياً من الرسائل تغيّر فيها اليوم والساعة، أو تسألني قلقةً إذا ما كنتُ أمانع بطبخة تعتمد الخضار وحده، أو قليلاً من لحم، أو إذا ما كنت أفضل حلوى ما بعد وجبة العشاء بالجبنة، أو بالفاكهة.. إلخ، ثم تُلحق رسالتها الإلكترونية بصور متنوعة لقططها العزيزة.

وهذه الملاحقة ليست وليدة حرص في الطبيعة، بل وليدة انشغال مسحور بالتفاصيل، ينتسبُ إلى طفولة عميقة فيها. إنها شاعرة تُشعرك بأنك تعرفها عن قرب، حتى لو التقيتها مرة واحدة. كيان حميم حتى وهو ذاهل عنك. شاعرة في الكيان الإنساني وفي النص اللغوي.

    كانت تُلفت نظرنا جميعاً حين تقرأ من الذاكرة، بلباس غاية في البساطة، وكأنها تلميذة في درس. ولكن قصائدَها التي تتزاحم فيها دعابةُ ابنة العائلة الأيرلندية العاملة (التي كانت تدير باراً، دكاناً، ومحطة بنزين، في ريف "كورك"، جنوب أيرلندا)، تُضفي حميمية في العلاقة بينها وبين المستمعين لها.

  المجموعةُ الشعرية الأخيرة التي أصدرتها عن دار Anvil كانت بعنوان "بيرنفورد، لاس فيغاس" وبغلاف أزرق، زرقة طبعت كل كتبها التي صدرت عن هذه الدار من قبل. إنه لونها المفضل، لأنه لون غلاف الطبعة الأولى لرواية جيمس جويس "يوليسيس"، التي تعلقت بها منذ سعت إلى الكتابة. وأذكر أننا حين اجتمعنا في بيتها يوم الدعوة، كانت الجدران باللون ذاته.

    قصيدتها تميل إلى الدراما، حتى لو كانت قصيرة، وهي بالنسبة لقارئ أجنبي مثلي، شديدة الميل إلى استيحاء ما هو محلي، أو يومي يبدو أحياناً بعيد المنال، بفعل تزاحم الإشارة إلى أسماء شخوص، أماكن، أحياء، أشياء، تحتاج إلى إيضاح، كما نرى في القصيدة التالية:

كتاب القصص الأخضر

وصلتني اليوم من موقع eBay، طبعة 1947 الأولى،

 مع رسوم توضيحية مظلَّلةٍ بنعومة،

غلاف مغطى بالسيلوفان فلم ير غباراً من قبل.

لِفافة غلافٍ بلون التفاح شحَبت بفعل الزمن

 "كتاب القصص الأخضر" سقط بين يديَّ الممتلئتين

في الستينيات. علّمتُ نفسي القراءة من هذا الكتاب،

خطُّ الغلاف المميز لـ"أنيد بليتون"

يُسرع عبر لِفافة الغلاف الأخضر الغامق.

حرصتُ في البحث عنها مراراً،

باب "الحديقة السرية"،

ذلك الرويال فلاش الأول، معجزة

العلامات السوداء وهن يمططن بأنفسهن

على امتداد الصفحة،

قائلات من هنا، من هذا الطريق،

سوف تهربين.

 "بليتون" كاتبة أطفال شهيرة في الخمسينيات، والرويال فلاش مجموع الورق المتفوق في لعبة البوكر، وفي القصيدة إشارات لعناوين أخرى مألوفة بين الإنكليز. ولكن الأمر لا يعرقل فهمَ النص، والغموضَ السحري في الإشارة إلى طريق الهرب.

 قصيدة مارتينا حكائية دائماً، أو سعي لتوحيد الشعر والقصة في نص واحد. ولا غرابة، فهي كاتبة لروايات عدة. كما أنها كاتبة "قصيدة نثر"، حين تشدها الحاجة إلى القص داخل أفق اللغة الشعرية. مؤلفاتها العشرة موزعة بين الشعر، قصيدة النثر، والقصة. وعادة ما ترى لغتها الشعرية يسيرة على اللسان، تتجنب فيها لغة الاستعارة البلاغية. على أن الحدث في القصيدة عادة ما يخفي أسراره:

لغز الأحذية

أجنّب عينيّ محلاتِ الأحذية

ولكن الشيطان/ يتضح، بعيني ياقوت

يُضيء/ نافذة محل في فينيسيا/ مليئة بالألوان الغنية

لحلوى الشوكولا، لحمار، لصحارى.

لمريم المجدلية وهي تُرخي/ إبزيم خفّ السيد المسيح،

كل أولئك الشخوص في الكتاب المقدس

يتباهون بعرض أصابع أقدامهم،/ وأحذيتهم اللماعة

التي تطمع ابنتي لو تملك واحدة،/ أنيقة كلوحة،/ على قدميها،

تجعلها حيية، وأنيقة/ لحد تخشى فيه أن تنطق وتتحدث معها.

back to top