أريد أن أعود حميمياً!
منذ سنوات عشقت التقنيات الحديثة، وتطور الأمر بحيث أصبحت أعتمد عليها وأستخدمها في قضاء كل أعمالي من مراسلات وكتابة وقراءة، وانحسر العمل اليدوي في ما لا يمكن أن تقوم به هذه التقنيات. أمتدحها لقدرتها على الإنجاز السليم في وقت قصير، غير أنني ما زلت أعشق العمل اليدوي لما فيه من "حميمية" تكون فيها مشاعري وأحاسيسي متصلة مباشرة بالمادة التي أقوم على عملها، إن كانت كتابة أو رسماً أو تفكيراً، أو حتى "خربشات" على ورقة صغيرة أو سطح طاولة.
التقنيات اجتاحت حياتنا حتى إنها احتلت الوجبات الغذائية التي يتم إنجازها بالأدوات الحديثة وعلى عجل وسرعة، فضاعت منها لذة التذوق وما عدنا نقول إن طبيخ أم محمد أطيب من طبيخ أم حسن، إذ إن هذه الوجبات السريعة لها نفس المذاق والطعم وإن تبدلت أماكن بيعها وضاعت منها رائحة الفرن والحطب والفحم، الأمر الذي نخشى فيه ضمور حاسة التذوق وفقدانها مع الزمن!ولكن لسوء حظي فقد بدأت أتعامل معها بشكل مختلف في أوقات استراحتي من العمل لأشاهد بعض القنوات العربية التي لم أشاهدها من قبل، فصدمني الكم الهائل منها، بعد أن كنا- كما ذكرت ذلك في مقال سابق- ننتظر القناة الوحيدة التي تبث إرسالها لساعات معدودة، وكنا بلا استثناء- رضينا أم أبينا- نتابع كل ما تقدمه هذه القناة "اليتيمة"، وللإنصاف وبعد المقارنة فإنها كانت قناة غنية في "معظم" ما تقدمه من برامج أو مسلسلات أو لقاءات وغيرها، أو هكذا شعرنا وما زلنا نحتفظ بهذا الشعور حتى الآن! يحضرني على سبيل المثال لقاء للمذيعة المصرية الشهيرة في الستينيات "ليلى رستم" التي حملت لقب "عميدة المذيعات العرب" في لقاء لها مع فضيلة الشيخ مصطفى إسماعيل إن لم تخني الذاكرة، ذلك أنها في اللحظة التي وصل فيها فضيلته وبدأ الظهور على المسرح المعد لاستقباله قامت من مكانها وسارت نحوه مسرعة تستقبله. قد يكون هذا شيئا عاديا، ولكن الذي ما زلت أذكره أنها حين مدت يدها لتسلم عليه قامت هذه المذيعة الراقية بمحاولة تقبيل يد فضيلة الشيخ أو هي فعلت! هل هذا الأدب والخلق الرفيع متوافر الآن في مقدمات برامج الفضائيات العربية؟! بعد ما شاهدته، لا أتصور إلا في عدد قليل ممن لديهن اللباقة، وهل ما زال بيننا النموذج الصالح نفسه من العلماء يمنحون الناس علماً شرعياً خالصاً؟ إننا نعاني التطرف والتعصب الذي يمزق الأمة إلا القلائل الذين يحاولون تصحيح المسار وهم في جهاد كبير!ولست بالمتابع "النموذجي" للقنوات العربية لكنني حين أبحث عن راحة لعقلي وجسدي فإنني أتابع أي شيء دون أهمية ما فيه، فأكتشف المزيد من هذه "الخيبات" التي ابتلي بها الشعب العربي في الوطن الأم، ولم يسلم منها من هم في بلاد الغربة، بعد غزو الفضائيات، وهم الذين كنا نظن بهم خيراً أكثر لبعدهم عن الثقافة المجتمعية الجديدة التي اكتسحت الوطن تحت مسميات كثيرة تسببت في إفساد ذوق العامة والشباب خاصة وثقافتهم، وهم الذين عقدنا العزم عليهم وراهنّا بأنهم "المستقبل"، فإذا بهذه الثقافة تهدم البنيان من أساسه وبأيدي أبناء الوطن الذين يتحدثون عن مؤامرات خارجية تحاك لهم كلما ضعفت حججهم! التقنيات هي في صلب الحياة أساس لكل ما هو آت، وهي تتبنى كل الأعمال الإنسانية، ويمكن أن تجيب عن كثير من المسائل العالقة في الذهن، وهذا ضمن تركيبتها التي "تتوالف" مع أشياء كثيرة وتترابط في أصولها التي تساعد على الإجابة عن أي سؤال، فماذا نريد أكثر من هذا خيراً، وهي تقتصد في ذرف الوقت؟!رغم الحنين إلى بساطة الماضي وحميميته فإننا سعداء بهذه التقنيات العظيمة في كل ما وصلنا منها، وفي كل ما ننتظره في المستقبل القريب، فهي أدوات الحياة المتجددة، لكن السوء يأتي من طريقة استخدامها غير الصحيحة واستغلالها في إفساد مناحي الحياة!* كاتب فلسطيني - كندا