التزم شيركو كرمانج، مؤلّف كتاب «الهويّة والأمّة في العراق»، وهو كرديّ من مدينة أربيل، عدم التدخل في التاريخ الحافل بالمظالم، وقدّم للقارئ شرحاً مميزاً عن تركيبة الدولة العراقية التي جمع وينستن تشرشل، يومَ كان وزير المستعمرات في الإمبراطورية البريطانية، أطرافها إلى بعضها وشكّلها. وكانت تلك الأمبراطورية حينذاك منشغلة في تهدئة الثورات القائمة في إيرلندا والهند وفي العراق بعدهما.
كتاب سابقوضع الكاتب الفلسطيني حنا بطاطو سابقاً كتاباً بعنوان «الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق»، وهو دراسة لسكان العراق القدماء وفئات تجاره ولشيوعييه وبعثييه وضباطه الأحرار. واعتبر هذا الكتاب بمثابة دراسة سياسية اجتماعية أساسية للعراق الحديث تنتهي تماماً عند بداية ارتقاء صدام كرسيّ الرئاسة. وقد ظلّ المؤلف يتصوّر أنه قادر على كتابة رواية ترتكز إلى حدّ ما على فكرة بناء أمّة أو على فشل الشيوعية، على الرغم من اطلاعه على الاختلافات الداخلية العرقية والمذهبية للعراق.استفاد الدكتور كرمانج من فكرة بناء أمّة، لكنه لم يقع في فخ الزعم بأنّ النكبة كانت حتماً مدرجة ضمن عملية تشكلية العراق. لقد عرض آمالاً معتدلة بخصوص المستقبل، لذا فإنّ أيًّا من قرّائه لن يتوقّع الدوام لا لفدرالية العراق ولا لمؤسساته الديمقراطية الناشئة، فلا يزال الانقسام وديكتاتورية شيعية أكثر منها سنية احتمالات حقيقية. يتجنّب كرمانج الاستسلام للعاطفة في عرضه، أو جعل مظاهر الماضي تبدو بمظهر خيالي، أو ردّ كلّ ما هو كريه في العراق إلى صدّام أو إلى حزب البعث.مسألة الهويّةإنّ استمرار العراق كبلد هشّ يعود إلى أن مصادر عدم الاستقرار ما زالت قائمة من دون حل. فالأطراف الرئيسة في هذا البلد لا تتفق في ما يتعلق بطبيعة الدولة وبنيتها وهويتها. والصراع العراقي والمذهبي القائم راهناً لا يمكن أن يعزى فقط إلى التمرد والإرهاب. فمن المؤكد أن النزاعات والشقاق بين الجماعات القومية العرقية والدينية المذهبية تمثّل الجزء الأكثر جدية في المأزق العراقي لأن الشعب مكوّن من أصول مختلفة، والإقرار بهذا التنوع واحترام الاختلافات الثقافية والقومية للمجموعات العراقية المختلفة أمور ينبغي التعامل معها دستورياً ومؤسساتياً.لكنّ الكثير من المثقفين والأكاديميين العراقيين يؤكدون أن مفهومهم للعراقية يقوم على فكرة أن أبناء الشعب العراقي يتحدرون مباشرة من السومريين والبابليين والآشرويين والشعوب العربية، وأن الهوية العراقية ليست ظاهرة مختلفة بل إنها نشأت في قلب كل عراقي بصورة طبيعية، كما هي الحال مع أية هوية قومية أخرى وليس المطلوب سوى العمل على إعادة الحياة إليها. ويرى البعض أن صدام حسين هو الذي دمّر كل الهوية الوطنية للعراق، ويزعم آخرون أن «العراق طالما كان بلداً علمانياً يعرّف أغلب مواطنيه أنفسهم بهويتهم الوطنية وليس بهوياتهم العرقية أو الدينية».تسعة فصوليتألّف الكتاب من تسعة فصول يعرض الأول منها الخلفية التاريخية للعراق ولشعبه، كما أنه يحدّد مشكلة الهوية القومية ضمن السياق العراقي. وبحسب المؤلف ينقسم التاريخ المعاصر للعراق إلى سبع فترات، يتناول كلاً منها في فصل. أما الفصل الثاني فيعنى بالفترة الأولى، «تشكيل العراق»، حيث يجري التركيز على الطبيعة المتشظّية للشعب العراقي، وعلى التركيبة المعقّدة للمجتمع العراقي في السنوات التي سبقت تشكيل العراق.يتناول الفصل الثالث، «فيصل وحلم الأمة»، الدور الذي أداه فيصل، أول ملك على العراق، في توحيد البلد، ويقيّم نجاحاته وإخفاقاته في هذا المسعى. الدور البريطاني في تشكيل ومساندة العراق في فترة حكم فيصل، تمّ أيضاً تناوله بالتحليل الجادّ. الصراعات التي تلت نشوء العراق بين مجتمعاته الرئيسة كانت أيضاً موضوعاً مهمّاً من مواضيع هذا الفصل.ويبحث الفصل الرابع، «ظهور الوحدة الوطنية»، في تأثير عمليات العصرنة والتمدّن على الوحدة الوطنية. كما تمّ التدقيق في المدى الذي بلغه الشعب العراقي في الاعتماد على الآيديولوجيات الحديثة لغرض تشكيل تنظيمات سياسية.الفصل الخامس، «فشل الوحدة الوطنية»، يتناول آثار إبعاد البريطانيين على عملية الوحدة الوطنية، كما يتابع أيضاً تأثيرات هذه الآيديولوجيات على مختلف المجموعات العرقية والمذهبية، وتمّت في الفصل أيضاً مناقشة الأسباب الرئيسة لفشل الوحدة الوطنية.دور حزب البعث كان موضوع الفصل السادس، «عملية التفكّك الوطني». والتركيز هنا يجري على الطريقة التي تعامل بها حزب البعث مع التهديدات الأربعة الرئيسة: الشيوعيون، الكرد، الشيعة، والجيش. كما تمّ تتبّع سياسات التعريب والتسنين والتصديم البعثية وآثارها على الوحدة الوطنية.الفصل السابع، «أمة مشتّتة»، يناقش اثنتين من الاستراتيجيات التي استخدمها صدام في سبيل البقاء في السلطة: القبليّة والحملة الإيمانية. كما تمّ التطرّق إلى الآثار الاجتماعية- الاقتصادية لعقوبات الأمم المتحدة وما نجم عنها من سوء إدارة من جانب الحكومة العراقية. ويضمّ أيضاً رواية للتحرّك الكردي لبناء دولتهم ومساعيهم المماثلة لبقاء أمتهم بعد تشكيل إقليم كردستان شبه المستقل.الفصل الثامن، «الغزو الأميركي: فتح صندوق باندورا»، هو عبارة عن تحليل للتطورات السياسية التي تلت الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق وما تلاه من سقوطٍ للنظام. والهدف، هو ربط ظهور العنف المذهبي بالأحداث التي سبقت الغزو.الفصل التاسع، «تناقضات بناء الأمة في العراق»، ينظر في النواقص الشاملة ليس فقط بناء الأمة بل وتشكيلها أيضاً.يبدو العراق موحداً على الخارطة، لكنه منقسم على الأرض، وعلينا أن ننتظر لنرى هل أن الخارطة ستوحّد شعب هذا البلد أم أنّ الشعب سيمزّق الخارطة!
توابل - ثقافات
العراق... تركيبة جمعها تشرشل وفكّكها الأميركيّون
23-11-2014