لوحة لم يرسمها «دالي»!
التصالح مع الذات ليس ترفاً نفسياً. إنه الإيمان بأن ليس هناك حرب أكثر دماراً ولا أشدّ عداوة من حرب المرء... لذاته!معظم ما نراه من فقاعات قبيحة كطفح الجدري على وجه المجتمع ناتج من أفراد يعانون نقصاً حادّاً في التصالح مع الذات!
انتشار الوهم، السحر، الدجل، المخدرات، الحسد، التطرف، وسمّ ما شئت من بقع الظلام ليست سوى نتاج ذلك النقص الحاد في ذلك الشعور المسمى بالتصالح مع الذات، وبعض أسوأ أعراضه.معظم أفراد المجتمع الذين يسلكون تلك الدروب الوعرة والغامضة في متاهات السراب ليسوا سوى باحثين عن ذواتهم بشتى الطرق، فلم يستثنوا أشدّها عتمة، وأبشعها قتامة، ومعظم هؤلاء الضالين فاقد الأهلية إنما ليس بإرادته، فهو منذ أن يولد والمجتمع يحاصر تفكيره ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إذ لم يدخر المجتمع وسيلة إلا واتخذها لتحقيق تلك الغاية: الحرام، العيب، غسيل الدماغ، أقفال منافذ التفكير الحر، التنويم المغناطيسي، التعاويذ، تفتيش الأحلام ليلاً والنوايا نهاراً... إلخ. ما ان يولد الفرد في مجتمعنا وتفكيره محاصر بكل أنواع الحصار، وقد نجح المجتمع على مر عقود طويلة في إحكام ذلك الحصار جيدا إلا من بعض خروقات فردية لم تشكل خطرا حقيقيا لذلك الحصار ولا تهديدا على مر الزمن، وقد كاد هذا الحصار يستمر في النجاح إلى وقت قريب، ذلك الوقت الذي بدأت تتضح فيه هشاشة هذا الحصار العتيق بظهور تكنولوجيا الاتصال ووسائل التواصل الحديثة في عالم اليوم، هذا اللاعب الذي خلط الأوراق، وأعاد كتابة سيناريو اللعبة، حينها بدأ جدار الحصار بالانهيار أمام أفراد غير مؤهلين ذاتياً للقدرة على اختيار ما هو في مصلحتهم، لأنهم أصلاً لم يكونوا على وفاق مع أنفسهم، ليس لعلة ولدوا بها، ولكن لأن المجتمع تمكّن من خلق هوّة من الهلاك بين الفرد وذاته!هذا النقص الحاد في التصالح مع الذات هو السبب الذي يدفع المرء لاتخاذ قرارات ضده هو بالدرجة الأولى ومن ثم ضد من حوله، وهو الذي يحوّل الفرد إما إلى قنبلة موقوتة تسير على قدمين، أو قطعة من نسيج الليل.لو قُدّر "لسلفادور دالي" أن يتمنى في قبره، لتمنى أن يوضع توقيعه في أسفل لوحة هذا المجتمع، فلوحات "دالي" تبدو من المدرسة الواقعية مقارنة باللوحة التي يرسمها المجتمع في ذوات أفراده نتيجة لاستلاب السلام بداخلهم، ولست بحاجة لضرب أمثلة -على كثرها- للتدليل على صحة التشخيص، إذ يكفي أن نلقي نظرة على كثير من العلل الاجتماعية بيننا، وسنجد أن أساس هذه العلة أو تلك، فرد يعاني نقصا حادا في التصالح مع ذاته، فأصبح ضالاً لحسن السبيل، وكفيفاً لا يمكنه رؤية نور الهدى، يعيش في صراع دائم مع ذاته ومع العالم من حوله.ورغم اعتقادي الذي يكاد يصل الى اليقين بان هذا هو الداء العضال الذي ينخر في المجتمع، فإنني لا أعرف دواء أو عشبة سحرية أو رقية تطرده، ولكني على ثقة بأن فاتورة التشافي ستكون باهضة الثمن، إلا إن قضى الله بغير ذلك برحمته.