درج الخطاب الإعلامي على وصف الشباب الذين يقعون في براثن الإرهاب ويلتحقون بتنظيماته بـ"المغرر بهم" وهو وصف يفيد بأنهم كانوا "أسوياء" ثم تعرضوا لخطاب "التغرير" فانحرفوا عن الجادة، لذا علينا استيعابهم ومناصحتهم وهدايتهم إلى الطريق المستقيم، فخطاب "التغرير" أشبه بخطاب "التبرير" الذي برز في السبعينيات ملتمساً أعذاراً لعنف الجماعة الإسلامية في مصر وغيرها من التنظيمات التكفيرية، بحجة أنهم "شباب متدينون، قوامون، صوامون، هزهم ما رأوه في مجتمعاتهم من ردة فكرية وتحلل خلقي وفساد اجتماعي واستبداد سياسي وتسلط إعلامي علماني واضطهاد لحملة الفكر الإسلامي، فهم طلاب إصلاح لكنهم أخطؤوا الطريق وضلوا السبيل، فينبغي أن نقدر دوافعهم الطيبة".

Ad

 خطاب "التغرير" كخطاب "التبرير" ضبابي وغير دقيق:

أولاً: أنه يلتمس أعذاراً لهؤلاء الشباب الذين انزلقوا إلى طريق الشر والهلاك، فهم "ضحايا" مغرر بهم، وهذا ما يردده عادة الآباء دفاعاً عن أبنائهم الذين التحقوا بالتنظيمات الإرهابية، وتبريراً لقصورهم في التربية والمراقبة، وهو ما يتفق مع من يفسرون السلوك الإجرامي بأن المجرم ضحية المجتمع كما جسده الفنان فريد شوقي في "جعلوني مجرماً".

ثانياً: أنه يحمل نوعاً من إعفاء الذات المجتمعية: مؤسسات التعليم والتثقيف والإعلام والدعوة، عن تحمل مسؤولياتها تجاه هؤلاء الشباب، وقصور برامجها ومناهجها في تحصينهم فكرياً ودينياً وثقافياً لمواجهة أمراض التطرف.

ثالثاً: أنه يخالف المنهج القرآني في تحميل الذات المجتمعية مسؤولية تردي أوضاعها "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ"... "قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ"، وفي يوم الفصل وأمام أحكم الحاكمين يحاول الإنسان تحميل الشيطان وزر أعماله بحجة "التغرير" فينبري الشيطان متبرئاً "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ"، فلا يفيدنا كثيراً ترديد مقولة "الشباب المغرر بهم" واتهام أطراف داخلية وخارجية وتحميلها المسؤولية، علينا تحمل مسؤولياتنا بنقد الذات المجتمعية والمراجعة البصيرة للأوضاع والمحاسبة الواعية للمؤسسات المسؤولة عن ثقافة "تحصين المجتمع"، والإفادة من الأخطاء والعثرات طبقاً للمنهج القرآني "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".

رابعاً: تعليق مسؤولية تطرف الشباب على شماعة "التغرير" لا يساعدنا في حسن تشخيص الظاهرة الإرهابية ولا يعيننا على تفهم الدوافع النفسية والعقلية التي تحول شاباً في عمر الزهور إلى قنبلة بشرية متفجرة! ولا يقول لنا: ما الذي يجعل قطاعاً من الشباب يتأثر وينقاد لخطاب "التغرير" في حين القطاع الأكبر منهم لا يتأثر به؟! أليس ذلك بسبب ضعف "التحصين الثقافي والديني" لهؤلاء الشباب أو ما يسمى بمرض نقص المناعة الفكري المكتسب لهم.

خامساً: إن وصف هؤلاء الشباب بأنهم "مغرر بهم" يخالف الواقع والمشاهد من أحوالهم وتحركاتهم، إذ كيف نفسر أو نعلل أن 70% من أفراد الخلايا الإرهابية العشر التي تم القبض عليها مؤخراً في السعودية، سبقت مناصحتهم وأعلنوا توبتهم واستفادوا من برامج المناصحة، لكنهم عادوا مجدداً للانخراط في أعمال إرهابية، مما يدل دلالة قاطعة أن لديهم أجندة معينة يسعون إلى تنفيذها بإصرار وعزم، الأمر الذي لا ينطبق عليهم صفة المغرر بهم؟! وكيف نفسر أن عدداً من هؤلاء الشباب الذين التحقوا بالتنظيمات الإرهابية في العراق وسورية، قاموا ببيع ممتلكاتهم: سيارات وعقارات أو مبالغ نهاية الخدمة، والذهاب بما جمعوه من أموال وتقديمها لهذه التنظيمات والالتحاق بساحات القتال؟! وقد كشفت وثيقة باكستانية أن 60% من الذين برئوا من تهم الإرهاب يشاركون اليوم في أنشطة إرهابية ضد السلطة الباكستانية، وكشفت وثيقة لوزارة الداخلية العراقية مؤخراً أن أكثر من 4 آلاف عربي فجروا أنفسهم في العراق! وكيف ينطبق التغرير على هذا الأب الإرهابي الذي اصطحب أطفاله متفاخراً إلى ميادين القتال؟!

سادساً: حسناً فعلت السعودية بتجريم خطاب "التغرير" ومحاكمة دعاته وخطبائه، ولكن قضية اعتناق الشباب للفكر التكفيري الضال، أعقد وأعمق وأشمل من أن نحمل مسؤوليتها خطاب "التغرير".

ختاماً: إن نقطة البداية الموضوعية لمعالجة أي مشكلة هي الاعتراف بها أولاً، وحسن تشخيصها ثانياً، ثم وضع الحلول الناجعة لها ثالثاً، فالشباب الذين نصفهم مغرر بهم هم أبناء بررة لخطاب ثقافي مشحون بكراهية عميقة لقيم الحداثة، له منظروه ومفتوه وخطباؤه وإعلامه ومناهجه وممولوه ومفاهيمه الدينية المغلوطة، أبرزها "مفهوم الجهاد".  التشخيص السليم للإرهاب يقول بصراحة إن الإرهاب أساسه انحراف في فهم الجهاد، علينا تفكيك مفهوم الجهاد المغلوط، وإعادة النظر في طريقة تدريسه في مناهجنا، وذلك من خلال: 1- أن ندرس طلابنا أن جهادهم الحقيقي هو في ميادين العلم والتنمية والعمل والإنتاج لخدمة دينهم ووطنهم. 2- أن الجهاد بالمعنى العسكري هو من اختصاص ومهمة الجيوش النظامية، دفاعاً عن الوطن. 3- أن إعلان الجهاد هو حق حصري لولي الأمر– شرعاً ودستوراً– ومن ثم ينبغي مساءلة الخطباء المحرضين على الجهاد لافتئاتهم على سلطة ولي الأمر.

 * كاتب قطري