رعايا في «جمهورية الإنترنت»

نشر في 16-11-2014 | 00:01
آخر تحديث 16-11-2014 | 00:01
إنها معادلة بسيطة: سلطة تستطيع أن تدخل إلى كل زاوية وأن ترصد كل نشاط في حياتك، باعتبارها «آلة عمياء»، لكن تلك الآلة العمياء يمكنها أن تصنف ما يصدر عنك، وأن تحلله، وبسبب «خطأ تقني» على الأرجح، أو لأسباب أخرى، ستبوح ببعض أسرارك يوماً.
وبما أن تلك السلطة هي التي ستحدد من الذي سيقع الخطأ التقني في حقه، فستظل أنت حريصاً على عدم إثارة غضبها، لأن كل أوضاعك مكشوفة أمامها.
 ياسر عبد العزيز على مدى تسع سنوات، ظل الروائي المصري الراحل إبراهيم أصلان يكتب روايته الأهم "مالك الحزين"، التي صدرت عام 1981، لكن تلك الرواية لم تحصل على نصيبها من الرواج والاهتمام، إلا عندما أعاد المخرج داود عبد السيد كتابتها في نص سينمائي، أسماه "الكيت كات"، وهو الفيلم الذي حقق نجاحاً كبيراً عند عرضه للمرة الأولى عام 1991، حيث جمع بين تقدير النقاد وإقبال الجمهور، في وقت كانت السينما المصرية تعاني فيه فنياً واقتصادياً.

كان بطل الرواية هو الشيخ حسني، الكهل الضرير، الذي مكَنته عاهته "المزعومة" (كان يجادل دوماً بأنه يرى أكثر مما يرى المبصرون)، من الاطلاع على أسرار الآخرين، وحصَّنته من عواقب فضحها.

وحدث أن بدأ الشيخ حسني في كشف أسرار رجال الحي وسيداته؛ ومنها ما هو شائن ويعاقب عليه القانون، حين تحدث أمام مكبر صوت، تُرِك مفتوحاً على سبيل السهو.

ويذكِّرنا ما فعله الشيخ حسني بذلك الذي فعله "جوليان أسانغ"، المسؤول عن موقع "ويكيليكس" تماماً، لقد تُرك "الميكرفون" مفتوحاً على سبيل السهو أمام لسان صاحب العاهة المزعومة، ففضح بعضاً من سكان الحي، بأن تخير عدداً من زلاتهم، وأذاعها على الملأ، وترك الباقين تحت سيف الرهبة، منتظرين أن يسمعوا "فضائحهم" بآذانهم، وأن "تُنتهك خصوصياتهم".

لا يختلف هذا كثيراً عما فعله "أسانغ"، الذي حصل بطريقة لا نعرفها على مجموعة كبيرة من الوثائق، تخص حكومات وأنظمة وتكشف أسراراً خطيرة لم يكن بمقدور أي سلطة أن تعلنها أو تتحمل مسؤولية إعلانها.

لم يسأل أحد "أسانغ" لماذا نشرت تلك الوثائق ولم تنشر وثائق أخرى، كما لم يعرف أحد لماذا أعلن "ويكيليكس" عن نشر معلومات ثم عاد وأحجم عن نشرها.

إنها معادلة بسيطة: سلطة تستطيع أن تدخل إلى كل زاوية وأن ترصد كل نشاط في حياتك، باعتبارها "آلة عمياء"، لكن تلك الآلة العمياء يمكنها أن تصنف ما يصدر عنك، وأن تحلله، وبسبب "خطأ تقني" على الأرجح، أو لأسباب أخرى، ستبوح ببعض أسرارك يوماً.

وبما أن تلك السلطة هي التي ستحدد من الذي سيقع الخطأ التقني في حقه، فستظل أنت حريصاً على عدم إثارة غضبها، لأن كل أوضاعك مكشوفة أمامها.

ليس هذا نهاية لعهد الخصوصية فقط... لكنه أيضاً بداية لعصر جديد، علينا أن نتوقع فيه أن يتم فضح أسرارنا في أي لحظة.

نشر جورج أورويل روايته الشهيرة "1984" عام 1949، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، في محاولة لاستشراف شكل العالم سنة 1984 التي اختارها عنواناً للرواية.

لقد حذر أورويل في روايته من "مستقبل شمولي" يسيطر فيه "الأخ الأكبر"، أي رئيس الدولة أو قائد الحزب على حياة المواطنين، ويحولهم إلى جحافل فاقدة للإرادة والخصوصية والإنسانية.

يرسم أورويل في تلك الرواية صورة قاتمة لما ستكون عليه حياة مواطن بريطاني يعيش في لندن في العقد التاسع من القرن العشرين، بفرض أن المملكة المتحدة آنذاك تُحكم بواسطة نظام شمولي، يسجل كل حركة وكلمة وسلوك يصدر عن أي مواطن، ويخضع كل متجاوز لما يريده "الأخ الأكبر" لعقاب مرير.

لم تتخذ أوروبا الغربية المسار الذي حذر منه أورويل على أي حال، كما أن دول ما كان يسمى بالمعسكر الاشتراكي لم تعد كتلة واحدة تَعتمد الشيوعية منهجاً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.

على العكس من ذلك تماماً، لقد تحلل الاتحاد السوفياتي، وبدأت الصين في سياسات "رأسمالية دولة" ناجعة، كما فتحت مجالاً واسعاً للاستثمار الخاص، وانضم عدد من دول أوروبا الشرقية التي كانت جزءاً من حلف "وارسو" إلى الاتحاد الأوروبي، بل وإلى "حلف الأطلنطي".

بافتراض أن "أورويل" مازال حياً، وبافتراض أنه ينوي أن يدخل تعديلات على رواية "1984"، فإنه على الأرجح سيحول "الأخ الأكبر" من شخصية رئيس الدولة وزعيم الحزب إلى صورة "سلطة الإنترنت"، التي تستخدم أدوات تقنية فائقة، وتديرها حكومات ومؤسسات وأجهزة وشركات عديدة.

 كما أنه سيضطر إلى تغيير الآلية التي اتبعها "الأخ الأكبر" مع المواطن الذي يقع تحت سلطته لكي يبقيه مراقباً طوال الوقت؛ بحيث سيجعل هذا المواطن يذهب إلى الرقابة مختاراً، لا مجبراً أو منقاداً.

لو كان جورج أورويل حياً لأعاد كتابة روايته، ولوضع مكان "الأخ الأكبر" صورة لسلطة جديدة تتجاوز حدود الدولة الوطنية والإمبراطورية؛ وهي سلطة لا تمتلك أدوات قمع خشنة، ولا تجبر المواطنين على تسجيل بياناتهم؛ لكنها تخيرهم هكذا: "موافق أم غير موافق؟". في أغلب الأحيان يوافق المواطن المستهدف، بعدما يقنع نفسه بأن تلك السلطة "عمياء ومحايدة"، كما استطاع "الشيخ حسني" تماماً أن يقنع سكان الحارة.

ثمة سلطة جديدة تتخذ سمت "الأخ الأكبر" لدى أورويل أحياناً، وتلعب دور "الشيخ حسني" في رواية أصلان "مالك الحزين" أحياناً أخرى، إنها سلطة "الإنترنت" التي حولت معظمنا إلى "رعايا" في جمهوريتها؛ ورغم أنها تدعي كونها "سلطة عمياء محايدة" فإننا أصبحنا نعرف الآن أنها تمتلك عيوناً كثيرة، يمكنها بها أن ترصد ماذا نقرأ، وماذا نحب، وماذا نشتري، وماذا نسمع، وفيم نفكر.

ليس هذا فقط، لكن تلك السلطة أيضاً بوسعها أن تعرف أرقام حساباتنا في البنوك، وتفاصيل حواراتنا مع أصدقائنا، وأسرار بيوتنا، ويمكنها أيضاً أن تطلع على صورنا، وأن تتابع تحركاتنا، وأن ترصد مواقعنا.

في "جمهورية الإنترنت" سيظل "الأخ الأكبر" قادراً على رصد كل تفصيل في حياتنا، وببعض التحليلات والتصنيفات سيعرف تفضيلاتنا وأفكارنا وطموحاتنا، وسيأتي "الشيخ حسني" أحياناً، وفي الوقت الذي يحدده، ليفضحنا، وسنظل نحن على درجة الغباء نفسها معتقدين أنه "محايد وأعمى"، بينما هو يرى أكثر مما يرى أي مبصر.

* كاتب مصري

back to top