رؤية سيريالية في القضية الفلسطينية (22)
من يتابع مجريات الأحداث في الوطن العربي لا يمكنه أن يغفل متابعة ما يجري على الساحة الفلسطينية، التي هي دائماً في حالة استنفار وعدم استقرار.وآخرها أن دعوة قضائية أمام محكمة القاهرة للأمور المستعجلة اتهمت حركة «حماس» بالضلوع في «أعمال إرهابية» داخل الأراضي المصرية، وطالبت بإلزام الحكومة إدراج اسمها ضمن قائمة المنظمات الإرهابية.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يتم فيها الإشارة إلى الحركة الفلسطينية على أنها قامت بأعمال تخريبية في الأراضي المصرية، فقد قضت محكمة مصرية أخرى في يناير الماضي باعتبار «كتائب عز الدين القسام» الذراع العسكري لـ»حماس»، جماعة إرهابية أيضاً. كما أن العديد من الإعلاميين المصريين دأبوا على اتهام «حماس»، بل تجاوز بعضهم إلى كل الفلسطينيين، بأنهم عبء ثقيل على كاهل الدولة المصرية، وهؤلاء لن نلتفت إليهم لأن أهدافهم واضحة في خلق حالة احتقان وتفسخ في العلاقة ألأزلية بين مصر وفلسطين، لكن ما يطمئن في هذا هو أن أغلبية الشعب المصري لا تتفق مع هذه «الأبواق» لوعيها الكامل بأنها أبواق مضللة ولها أهدافها المرفوضة. هذا بتراكمه جعل الحركة الفلسطينية «حماس» تعلن، على لسان أحد متحدثيها، أنها لم تعد تعتبر مصر وسيطاً بينها وبين إسرائيل بعد حكم المحكمة هذا.ورغم ما في هذا الحكم من تأثير على سمعة الحركة الفلسطينية، وما في طياته من تحريض عليها، إلا أنه غير ملزم للحكومة المصرية، ولاسيما أن الحركة تطلب ما يثبت تورطها فيما تم الادعاء به عليها، كما أن متحدثين باسم الحركة أكدوا، في أكثر من موقف، على الروابط القوية بين الشعبين الفلسطيني والمصري، وأن أمن مصر مهم، وهم حريصون عليه لحماية الجانب الفلسطيني وقضيته، خصوصاً أن «معبر رفح» هو المنفذ الوحيد لقطاع غزة الذي تسيطر عليه «حماس» منذ الانقسام على الساحة الفلسطينية إلى العالم الخارجي. هذا هو الوضع غير «المعقول»، أن يتم التصادم مع الحكومة المصرية التي لم يصدر عنها أي تصريح بخصوص الحكم الصادر عن محكمة القاهرة للأمور المستعجلة، والتي رعت (أي الحكومة المصرية) كل المباحثات الفلسطينية - الفلسطينية أو الفلسطينية - الإسرائيلية، وتقف وراء المطالب الفلسطينية في المحافل الدولية بكل قوتها، بينما «الانقسام» قائم بين أكبر فصيلين فاعلين على الساحة الفلسطينية، كما رعت مصر، كما هو معلوم، العديد من المحاولات والمباحثات لإنهاء هذا الوضع غير «المعقول»، والذي أصبح في نظر الشعب الفلسطيني من أهم العوائق التي تمنع أي انفراج أو الحصول على المزيد من التأييد العالمي للمطالب الفلسطينية وحق الشعب في إقامة دولته المستقلة التي بدأ تأثيرها يلقى قبولاً في بعض الدول الأوروبية، مثل السويد التي اعترفت بالدولة، وكذلك البرلمان الإيطالي والبريطاني من قبله. بل إن هذا الوضع «غير المعقول» وغير المقبول، والذي لا يتفق مع رأي الجماهير الفلسطينية له تأثير في زيادة التمدد الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية وعلى تدهور الاقتصاد والحياة الاجتماعية والتأثير السلبي على قضية الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. ومن غير المقبول أيضاً... خروج بعض التصريحات العلنية من قبل أعضاء «حماس» تتهم الحكومة المصرية بما لا يمكن أن يجنبها التصادم معها «رسمياً»، الأمر الذي سيترتب عليه المزيد من ردات الفعل في غير صالح الطرفين في هذه المرحلة الحساسة والدقيقة التي تمر بها المنطقة برمتها والوضع الداخلي المصري.فمازالت مصر قبلة الفلسطينيين في أي مأزق يتعرضون له، والثابت أنها لن تتخلى عن دورها القومي تجاه القضية الفلسطينية لمجرد ردات فعل وانفعالات غير محسوبة النتائج، لإحساسها بأنها الأكبر الذي يتفهم صعوبة الحال، وأن على الأطراف الأخرى أن تكون واعية بكل ما يصدر عنها من تصريحات، وهذا الثابت المصري لا يمنح أحداً حق التطاول على السيادة المصرية.وما وجود قياديين من»الجهاد الإسلامي» في القاهرة إلا دليل على أن صدر مصر «القيادة» يتسع للاستماع إلى كل ما يمكن أن يخدم العلاقة الأزلية والأخوية بينها وبين الفلسطينيين، ولاسيما السلطة التي تعتبرها الواجهة السياسية الوحيدة التي تمثل كل الفلسطينيين.لن نُـذَكِّر بأن السياسة لها قواعد وطرائق وأساليب يمكن أن تقود أصحابها إلى مكاسب، أما إذا كانت سياسة حمقاء فإنها ستجلب الدمار والخراب على صاحبها وعلى من في فلكه! فالسياسة عمل العقل الواعي، ولا مكان فيها لـ»السيريالية» والخيال الجامح، فهي الوسط الذي تلتقي فيه المتضادات للوصول إلى مساحة يمكن أن تصلح ملعباً لسياسة جديدة بمنطق مختلف يتم التوافق عليه.نختم بسؤال: هل سيبقى الوضع قابلاً للانفجار والتراشق الإعلامي بما يفسد الأجواء كلما ساد الهدوء، ويتحمل الشعب الفلسطيني أكثر نتائجه السلبية؟ وأمنية بأن يجد الناطقون باسم الحركة أسلوباً أكثر انفتاحاً، وبعقل واع يفسح المجال لحوارات مقبولة، بحيث يراعي كل طرف مصلحة الآخر واحتياجاته الأمنية والضرورية التي تفرضها المرحلة الحساسة والدقيقة التي يمر بها العالم العربي كله، وليس الانفعال غير المضبوط من قرار محكمةٍ يمكن طلب الاستئناف فيه، كما يمكن إبطاله إن حسنت النوايا!