لماذا اخترت الخطابة محوراً لدراساتك ومؤلفاتك؟

Ad

الخطابة إحدى أهم أدوات التواصل الجماهيري في المجتمعات المعاصرة. وهي شديدة التأثير في وعي الملايين من البشر في أرجاء العالم. وبذلك تحتاج إلى أدوات علمية لفهم كيف تقوم بوظائفها، وطبيعة تأثيرها في حياتنا، وكيفية توجيه هذا التأثير لتحقيق حياة إنسانية نبيلة وعادلة.

الخطابة أيضاً نوع من أنواع الأدب له جماله وبلاغته، وتمكننا دراستها من تفسير مظاهر جمالها، وتتبع أساليبها وطرقها، وتفسير سر التفاوت بين خطيب وخطيب، ولماذا يحوز شخص قدرة استثنائية في التأثير بخطبه على الناس، بينما يفشل خطباء آخرون في تحريك عواطفهم، والاستحواذ على انتباههم، والقدرة على إقناعهم.

وقد دفعني إلى التركيز على دراسة الخطابة المعاصرة، على وجه التحديد، أن العالم المعاصر أعاد للخطابة دورها المحوري في الحياة اليومية، فأي إنسان في الوقت الراهن يتعرض لأشكال عدة من الخطب، سوف يستمع في الشارع والجامعة والمسجد وقاعة الدرس والاجتماعات والندوات والمؤتمرات والحفلات والأعراس والمسابقات الرياضية، إلى خطب وبيانات وكلمات لا حصر لها. حتى إذا جلس في بيته ولم يتحرك خارج غرفته، فسوف تنهمر عليه الخطب من شاشات التلفزيون وصفحات اليوتيوب. وجميعنا يتذكر كيف كانت الخطب السياسية للرؤساء العرب تُذاع في تلفزيونات ما قبل السماوات المفتوحة ليل نهار، بالطبع لم يكن هذا الحضور للخطب حضوراً سوياً مقبولا، غير أنه علامة على المكانة التي تمتعت بها الخطب في عصر التواصل الجماهيري.

ما دور الخطابة في تاريخ العرب على مر عصورهم؟

منذ العصر الجاهلي كانت الخطابة أحد أهم نوعين أدبيين عربيين بمصاحبة الشعر. فقد كان الشعر والخطابة هما وسيلتا التواصل الجماهيري الأساسيتين في المجتمعات العربية لقرون طويلة. كانت الخطب تُلقى في قاعات الدرس لتشجيع المتعلمين، وفي ساحات الحرب لإلهاب حماسة المتقاتلين، وفوق منابر دور العبادة لاستثارة عواطف المؤمنين، وفي مجالس البيوت إصلاحاً لذات البين وتقريباً بين المتخاصمين، أو تجهيزاً لعرس أو احتفالا بمولود، أو تعزية في راحل. كذلك كانت الخطب تُلقى في الساحات العامة، تأييداً لحاكم أو معارضةً لآخر، دفاعاً عن السلم أو تحريضاً على الحرب. وباختصار، كانت الخطابة هي الوسيلة الأساسية لإقناع العامة والتأثير فيهم، على مدار قرون طويلة في التراث العربي.

لكن دكتور عماد هل كانت الخطابة العربية تحظى بهذه المكانة طوال الوقت، أم كان ثمة تفاوت على مدار العصور؟

بالطبع كان ثمة تفاوت، وفي الحقيقة أصبح معظم حكام العالم العربي في نهاية العصر العباسي الثاني من غير العرب، ما أفقده كثيراً من تقاليد التواصل القديمة التي استمرت مئات السنين، فتراجع دور الخطابة في الحياة العامة والخاصة أيضاً، ولم تعد عنصراً مهماً في الحياة اليومية للإنسان العربي، واقتصر حضورها على الخطب الدينية، التي تحولت بدورها إلى نصوص شعائرية محفوظة في غالب الأحيان. غير أن العصر الحديث، الذي بزغت معه فكرة الهوية الوطنية، والفضاء العام أعاد للخطابة مكانتها، وجعلها تعيش ثانية عصر ازدهار.

هل تؤرخ الخطابة السياسية لحياة المجتمعات والشعوب العربية؟

اعتاد المؤرخون الاستناد إلى الخطب السياسية بوصفها وثائق أساسية لكتابة التاريخ. وفي كثير من الأحيان تكون هذه الخطب هي المادة الرئيسة لكتابة تاريخ مرحلة ما؛ خصوصاً في حالة اندثار الوثائق الأخرى مثل السجلات وأعمال الدواوين. ويحمل هذا مخاطر عدة في رأيي؛ لأن خطب السياسيين لا تقدم إلا وجهة نظر صاحبها في الأحداث التي يحكي عنها. وفي الحقيقة فإن وجهات النظر هذه تكون عادة متحيزة وبرغماتية. وقد نشرتُ منذ عشر سنوات دراسة في «دار لاهرمتان» الفرنسية عن مخاطر الاعتماد على ما أسميته «تأريخ القادة»، الذي يُكتب بواسطة الخطب.

وفي ظني أن التاريخ الشعبي الذي يرويه عامة الناس، والتاريخ الأدبي الذي تحكيه الأغاني والسير الشعبية والحواديت ربما كان أكثر مصداقية من خطب الرؤساء. وحينما أقرأ كتاباً في التاريخ وأجد المؤرخ يعتمد على خطب الرؤساء من دون نقد أو تعليق أتذكر حادثة شهيرة في التراث العربي، فقد كان الحجاج ابن يوسف الثقفي، المشهور بالسفاح، حين يخطب يذكر إحسانه إلى أعدائه وشفقته بهم، بينما يعلم من يستمعون إليه عن يقين أن هذا الكلام لا أساس له من الصحة، إلى حد أن الحسن البصري الإمام الواعظ استمع إلى إحدى خطبه مرة فقال لأصحابه {لعنه الله... يعظ وعظ الأبرار ويبطش بطش الجبارين}.

ما أبرز سمات الخطابة في عالمنا الراهن؟

تتسم الخطابة المعاصرة بسمات خاصة نتيجة التغيرات التي طرأت على المجتمعات المعاصرة. أول هذه السمات هو أن الخطابة أصبحت ظاهرة مرئية، فلم تعد نشاطاً لفظياً، يعتمد على الكلام والصوت، بل أصبحت تعتمد على تقنيات الصورة أكثر من إمكانات الكلمة. بالطبع لا تزال الكلمة مهمة، لكن الصورة أهم. الخطابة الآن، خصوصاً الخطابة السياسية، أشبه بفيلم سينمائي، لا بد من وجود مخرج، وخبراء تصوير، وخبراء مونتاج وماكياج وصوت...إلخ. جيش جرار من تقنيي الصورة، يعمل كي يكون الكلام شديد الفاعلية والتأثير.

السمة الثانية مترتبة على ما سبق، وهو أن الخطابة لم تعد عملا فردياً، بل هي نشاط جماعي، دور الخطيب فيه فقط هو تسليم المنتج للجمهور. فثمة خبراء الإعلام والسياسة وتحليل الخطاب الذين يحددون ما سوف يُقال، وثمة متخصصو البلاغة واللغة الذي سيحددون كيفية قول ما سوف يُقال، وثمة فريق التصوير والتسجيل الذي يحدد كيف يُنقل ما سوف يُقال إلى الجمهور، وفي بعض الأحيان ثمة جمهور متدرب يعرف ما يجب عليه فعله حين يستمع إلى الخطبة. أصبحت الخطابة مسألة معقدة تماماً مثل معظم جوانب حياتنا. وانتهى ذلك الزمن الذي كان الخطيب يجلس فيه مع نفسه ساعة أو ساعتين، ليسطر عدة صفحات يقرأها أو يرتجلها أمام الجمهور.

لماذا الربط بين الخطابة والبلاغة، وما تأثير البلاغة على تكوين المفاهيم والثوابت؟

العلاقة بين البلاغة والخطابة تاريخية ومعقدة. فمنذ أكثر من ألفين وخمسمئة سنة نشأت البلاغة اليونانية مرتبطة بشكل كامل بالخطابة، خصوصاً الخطابة في المحاكم وفي مجالس التشريع وفي ساحات الاحتفالات الدينية. وأهم الكتب المؤلفة في البلاغة في ذلك العصر خُصصت لدراسة الخطابة، وأهمها «محاورة جورجياس» لأفلاطون، وكتاب «في البلاغة» لأرسطو.

ولعل أبرز دليل على الارتباط بينهما حدوث تبادل اصطلاحي بين «الخطابة»، و{البلاغة»؛ فكتاب أرسطو تُرجم إلى العربية بعنوان «الخطابة»، في حين تُرجمت محاورة جورجياس بعنوان فرعي هو «الخطيب». هذه الصلة بين البلاغة والخطابة ترجع إلى العلاقة الطبيعية بين العلم ومادة العلم. فالبلاغة علم يدرس طرق الإقناع والتأثير بواسطة الكلام. والخطابة كانت أهم أنواع التواصل الجماهيري الذي يستخدم الإقناع والتأثير لإنجاز وظائفه.

أما في ما يتعلق بالجزء الثاني من سؤالك عن دور البلاغة في تشكيل الثوابت والمفاهيم، فإن بلاغة الكلام، أي قدرته على الإقناع والتأثير، عامل حاسم في تشكيل التوجهات والقناعات والآراء وصياغة المفاهيم. فالكلمة المؤثرة تمارس دوراً خطيراً في حياة البشر، ولعلني لا أكون مجاوزاً إن قلتُ إن البلاغة التي تسحر العقول هي الخطر الأشد فتكاً في تاريخ الإنسان. ولننظر إلى تاريخ البشر لنرى كم من ملايين البشر أزهق أرواحهم سحر الكلمات. وفي المقابل، فإن الكلمة الساحرة (الخيِّرة) هي أيضاً البلسم الشافي، ويمكن أن أقول يمكننا النظر إلى التاريخ لنرى كم من ملايين البشر أنقذهم سحر الكلمات.

ما دور وسائل الإعلام: صحافة، إذاعة، تلفزيون، إنترنت... في تشكيل الخطب وأدائها والاستجابة لها؟

أدَّت وسائل الإعلام الدور الأهم في تطوير الخطابة المعاصرة. فقديماً كان تأثير الخطبة يزول سريعاً بزوال موقف إنتاجها وتلقيها. فبعد أن يُلقي الخطيب كلماته البارعة، ويُحدث تأثيراً عميقاً في النفوس، ينصرف البشر إلى حياتهم، ويتلاشى تدريجاً أثر الكلام في النفوس. لكن العصر الحديث قدَّم خدمة جليلة للخطب، فقد أتاح لها حياة ممتدة، ووجوداً متكرراً متنوعاً. فالخطبة التي نستمع إليها الآن في بث حي، سيُعاد بثها في وسائل الإعلام المرئية بعد قليل، ثم ستؤخذ منها مقتطفات في الصحف، وربما تُنشر كاملة، وستوضع نسخ منها على الـ «يوتيوب» كي يتاح لأي شخص مشاهدتها وقتما أحب.

إضافة إلى ذلك، فإن وسائل الإعلام أثرت بقوة في فنيات الخطابة المعاصرة؛ فكل خطيب الآن يفكر قبل أن يُلقي خطبه في أي المقتطفات يحتاج إلى إبرازها، وتأكيدها حتى يقتبسها منه الصحافيون، ويرددها وراءه الجمهور.

كيف يمكن للخطابة البلاغية صنع الثورة والتأثير في الرأي العام وحثه على الثورة والمطالبة بالحرية؟ وما وسائل الإقناع التي تعتمدها؟

كانت الخطب لزمن طويل وقوداً لإلهاب مشاعر الجماهير. ولا يمكن أن ننسى الدور الكبير الذي أدته الخطابة السياسية في عصور الكفاح الوطني ضد الاستعمار التقليدي؛ فقد أدت حركات الاحتجاج ضد الاحتلال إلى نشوء خطابات سياسية قومية ووطنية، استطاعت جذب اهتمام شرائح واسعة من الشعوب العربية.

على سبيل المثال، كان الخطاب السياسي المنطوق والمكتوب وسيلة حشد الجمهور عند عبد الله النديم ومصطفى كامل وسعد زغلول ومكرم عبيد في مصر؛ وفرحات حشاد في تونس؛ وعلال الفاسي وعبد الخالق الطريس والمهدي بن بركة وعمر بن جلون في المغرب؛ ومصالي الحاج وفرحات عباس في الجزائر وغيرهم في بلدان العالم العربي.

تصاعدت شعبية هذه الخطابات واتسع تأثيرها في الخمسينيات والسيتينيات مع تصاعد موجة القومية العربية، وازدهار خطاب الدولة الوطنية. وعزَّز سياسيون أمثال جمال عبد الناصر وهواري بومدين والحبيب بورقيبه شعبيتهم المحلية والدولية بواسطة صورتهم العامة بوصفهم متحدثين بلغاء.

أما في ما يتعلق بالأساليب التي تلجأ إليها لتحقيق ذلك فهي متنوعة. فقد يلجأ الخطيب إلى استثارة المشاعر الوطنية أو القومية مستفيداً من الخصوصيات الثقافية والحضارية، وقد يستخدم المقارنة بين واقع الاحتلال أو الاستبداد والصورة المشرقة لمستقبل الحريات، أو يستفز في الجمهور مشاعر العزة الإنسانية، وعدم الخضوع للظلم، أو يؤسس صورة إيجابية للذات الجمعية والفردية بوصفها أبية عزيزة، ويفند أساطير الوهن الفردي والجماعي.

الخطابة والثورات والرأي العام

ما دور الخطابة السياسية في الثورات العربية في السنوات الأخيرة؟

أدَّت الخطابة السياسية أدواراً مزدوجة في الثورات العربية؛ فمن ناحية كانت الخطابة السياسية آلية من آليات الحشد ضد الأنظمة القائمة، ووسيلة تعبئة لصالح التظاهر والاحتجاج. غير أن الخطابة السياسية كانت أيضاً وسيلة أساسية من وسائل إجهاض الاحتجاجات وإطفاء نارها. وقد رأينا كيف واجه الرؤساء العرب انتفاضات الشعوب بواسطة الخطب الرئاسية، وكيف أفلح بعض الخطب في تقليص موقت لشعبية الاحتجاجات. كذلك كانت الخطب السياسية وسيلة من وسائل التأثير في اتجاهات الناخبين نحو مرشحي الرئاسة في عدد من الدول، وأداة تواصل رئيسة بين حكام ما بعد الانتفاضات العربية وشعوبها. وقد وصلت خطورة الدور الذي أدته الخطابة إلى حد أنها أصبحت وسيط الحصول على التفويض «الشعبي» لاتخاذ إجراءات استثنائية، كما رأينا في الحالات: المصرية والليبية والتونسية على مدار العام المنصرم.

أخيراً ما الخلاصات التي استنتجتها من دراساتك حول الخطاب وعلاقته بالبلاغة والرأي العام؟

البلاغة وسيلة وأداة، قد تُستخدم على نحو خيّر لصالح البشر، فتسهم في تعزيز التعايش بينهم، وتأكيد حريتهم، ودعم مساواتهم، وحفظ حقوقهم بوصفهم بشراً. ويتحقق ذلك حين يؤثر المتكلم قول ما يظن أنه حق وخير حتى لو جاء هذا على حساب مصالحه الشخصية، وحين تتراجع مساحات التضليل والخداع والتمويه على الرأي العام. وحين يستخدم الخبراء مهاراتهم في تعزيز الوعي النقدي لدى الجمهور وليس في تعزيز قدرة المتكلمين على التلاعب بهم. فمن المؤكد أننا سنحيا في عالم أفضل حين يتعزز الوعي النقدي للأفراد والجماعات، ويتراجع التلاعب بالجمهور لصالح النخب المستغلة.