غابت «الشحرورة» ... وبقيت «الأسطورة»
«لا تحزنوا. لا تبكوا. وصيتي لكم أن تدبكوا وترقصوا في يوم غيابي. أريده يوم فرح تماماً كما أفرحتكم دوماً بوجودي». كان صعباً على محبي «الشحرورة» التي لقبت ايضاً بـ «الاسطورة» الالتزام برغبةٍ أودعتها ابنة اختها كلودا عقل وهي على فراش الموت، فلبنان امس كان قاتماً وموحشاً وبارداً أكثر من أيّ يوم مضى. لا تعترف صباح بالحزن والكرب. عصيّة هي على الدمع وحلقات الندب والعويل. لا تقيم للأسود شأناً. لا تروّج له. لا تسمح له بأن يتغلغل الى ذاتها. تحاربه رقصاً وإشراقاً وتشبثاً بغدٍ أفضل. حتى ورقة نعيها جاءت مغايرة عما هو معتاد، كانت رائدة حتى في لحظة غيابها، فأي نعي هذا يكُلّل بعبارات البهجة ابتهالاً «بفرحٍ كبير وتلبية لرغبة سيدة البهجة والأمل تعلن عائلة الصبوحة رحيل فقيدتهم الغالية»؟
لم تُختصر صباح يوماً بصوتها، كانت أكبر من نضارة الوتر وعذوبة الشجن. كانت إنساناً حقيقياً، حياةً مكتملة التلاوين: فصولٌ من الفرح والأمل، من التمرّد والاستبسال، من الخيانة والغدر. قصصها المعيشية وتجاربها الشخصية تزامنت مع براعتها المهنية. فكانت غرامياتها ومشاكلها العائلية والعاطفية تسبق الكتابات النقدية عنها وتنتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم.وأجمل ما في صباح صدقها. تلك الشفافية الصادمة التي لم تحل دون اعترافها علناً بجرأةٍ صارخة ونبرةٍ عفوية بأنّها هي، «الصبوحة» التي قضمت الحياة قضماً وتربعت على عروشٍ كثيرة، لم تجد رجلاً أحبها فعلاً وصدقاً، وبأنّ تعدّد زيجاتها على مرّ السنين إنما هو دليل إخفاقها الذريع في العثور على رجلٍ يحبها لشخصها، ويولع بروحها وليس بقشورها، ولا يبخل عليها بقليل من العطف الذي طالما كانت ترنو إليه بلا أمل. وأجمل ما في صباح «شعبيتها». فهي لم «تتحنّط» في «مثالية» منافقة. لم تصطنع حالة «أيقونية» تخلع رداءها عنها خلف العدسات. كانت متصالحة مع نفسها الى أبعد حدود. الظاهر معها هو المستور وذاكرتها خزانُ وقائع تسردها بلا وجلٍ وبواقعية فجة كسكين تتوسّل من نكئه للجراح بلسمةً للروح.لم ترتدِ «الشحرورة» أقنعةً واقية. كانت تمارس الكياسة والمجاملة مع الكلّ إلا مع نفسها. فمعها كانت تمارس طقوس المتصوّفين، تجلدها حتى لا يبقى ما هو مضمرٌ كامن. كانت تريد أن ترى نفسها بحلّتها الحقيقية من دون تبرّج أو كماليات أو بهرجات. كانت هي مُخرج سيرتها العاصفة وهي من يخبرك عن لحظات بؤسها وشقائها ووحدتها، فكانت أقرب بذلك الى كبار الغرب وغريبة عن عمالقة العرب. هؤلاء لا نعرف عنهم شيئاً إلا البريق والحبور. لا نذكر لهم لحظة وهَن أو تخاذُل، سطوعهم لا يخبو ومسيرتهم لا تعرف إلا الصعود، أما هي فحريصة على نقل لحظات الانكسار في انتصاراتها، تنتقم من الاشاعات المجحفة والانتقادات اللاذعة بجرعةٍ زائدة من الصدق والتحرّر والانعتاق. عجز الكلّ عن ترويضها وقولبتها على مزاجه، ولذلك أشبعوها شائعاتٍ، لأنهم كانوا يغارون من قدرتها على مبارزة الوجع والحزن والزمن. كانت كلّ ما لا يقوون على أن يكونوه. فكم من مرة قرروا عنها ساعة الغياب وكم من لسانٍ تناقل عنها الأخبار صدقاً أم تخيلاً. «لقد عشت حياتي بشجاعة. كنت سيدة نفسي، وما فعلت يوماً إلا ما أملاه علي مزاجي».نقف أمام شموخ شخصيتها بخشوع ونجد نفسنا عاجزين عن التشبّه ببعض من جبروتها. صباح...اعذرينا! لم نقوَ على الامتثال لرغباتك. لم ندبك. لم نرقص. لم نخاصم الحداد. لقد تملّك منا الحزنُ... وبكينا... بكينا كثيراً كثيراً! للمزيدصباح تطوي سيرةً حافلة من الغناء والتمثيل