أولادٌ خلف القضبان... إسرائيل ترتكب اعتقالات تعسفية بحق قاصرين فلسطينيين
في السنة الماضية، اعتُقل نحو ألف طفل فلسطيني على يد القوات الإسرائيلية من دون سبب واضح. يتحدث المدافعون عن القضية عن سوء معاملة منهجية تشمل الضرب والاعترافات الإجبارية، لكن يحافظ الجيش الإسرائيلي على صلابته في وجه هذه الادعاءات. {شبيغل} تابعت المستجدات.
يقول محمود إنه لم يشعر بالخوف حين حضر الجنود لاصطحابه. كان يمسك منديلاً بيده وهو يهزّ رأسه. ثم تمتم واعترف بأنه شعر بقليل من الخوف على الأرجح حين وجّه ستة جنود أسلحتهم الهجومية نحوه، أو حين ربطوا معصمَيه بأسلاك وعصبوا عينيه ودفعوه إلى داخل مركبتهم.في تلك الليلة الصيفية الحارة، يتذكر محمود أنه كان يسير على طريق البلدة مع صديقه حسين. كانا يناقشان ما إذا كان ممكناً تدخين ورق التبغ الملفوف مثل السجائر. فشاهدا مركبتين عسكريتين من بعيد، لكنه ليس مشهداً غير مألوف في بلدة يعبد. تقع مستوطنة ميفو دوتان اليهودية على التلة المقابِلة ويقوم الجيش الإسرائيلي بدوريات في أنحاء القرى الفلسطينية المحيطة لحماية المستوطنين. لكن توقفت المركبة فجأةً بالقرب منهما.
يتذكر محمود أن كفَّيه راحا يتعرقان. لكنه لم يهرب. ما الداعي لذلك؟ فهو لم يفعل شيئاً كما يقول. لم يُجِب الجنود حين صرخ: {لماذا تعتقلنا؟}.يسرد محمود باسم غانم (14 سنة) قصته من على الكنبة في منزل والديه في قرية يعبد الواقعة بالقرب من مدينة جنين الفلسطينية. تبث وحدة مكيف الهواء، وهي مصدر فخر للعائلة، هواءً بارداً في الغرفة وثمة شهادة هندسة تعود إلى والده فوق الكنبة. طوى محمود المنديل بعناية. لديه وجه طفل وجسم مراهق ويدا وساقا شخص راشد.اعتُقل محمود مرتين خلال شهرين. في المرة الأولى، أمضى أربعة أيام في السجن وتعرض في المرة الثانية للضرب والاستجواب ثم عاد إلى منزله في صباح اليوم التالي. في المناسبتين، لم يكن من سبب واضح لاعتقاله. ربما شعر الجنود بالملل. أو ربما ارتكبوا خطأً.قضية عاديةسرد محمود قصته أيضاً أمام محكمة {ووتش} العسكرية، منظمة تجمع شهادات الأولاد الفلسطينيين المعتقلين. سمع الناشطون في الجماعة قصصاً عدة، مثل قصة محمود، وهم يصدقونه. قضيته عادية بشكل عام.كل سنة، يعتقل الجيش الإسرائيلي 700 طفل فلسطيني. في عام 2013، ارتفع العدد إلى أكثر من ألف. اتُهم معظمهم برمي الحجارة على المركبات والجنود والمستوطنين اليهود. وفق القانون العسكري الإسرائيلي الساري المفعول على الفلسطينيين في الضفة الغربية، يُعتبر الأولاد فوق عمر الثانية عشرة معرّضين للمحاسبة الجنائية على أفعالهم، وقد يواجه الأولاد في عمر 12 أو 13 سنة عقوبات تصل إلى ستة أشهر من السجن بتهمة رمي الحجارة.هذا العام، أصدرت منظمة {يونيسف} تقريراً عن القاصرين الفلسطينيين في الحجز العسكري. فوصف انتهاكات خطيرة لاتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة: تبدو الانتهاكات {شائعة ومنهجية ومؤسسية طوال فترة العملية} بدءاً من {لحظة الاعتقال وصولاً إلى موعد محاكمة الطفل ثم إدانته والحكم عليه}. تتراوح الانتهاكات الواردة في التقرير بين الخنق باستعمال القيود في الحبس الانفرادي والعنف الجسدي، أو حتى الجنسي في حالات نادرة.في 12 يونيو، بعد أسبوع على اعتقال محمود، خُطف ثلاثة مراهقين إسرائيليين ثم قُتلوا على الطرف الآخر من الضفة الغربية. أدى اختفاؤهم إلى موجة اعتقالات من الجيش الإسرائيلي، ما دفع {حماس} إلى إطلاق الصواريخ وسرعان ما اندلعت أحدث حرب في غزة. لكن حصل ذلك كله بعدما اصطحب الجنود محمود من جبع.ركل وتهديديتذكر محمود أن الجنود راحوا ينشدون في السيارة أغاني يهودية وصفعوا الفلسطينيَين في وجههما أو دفعوهما من على مقعديهما. كانت عيون المراهقَين معصوبة. في الساعة الحادية عشرة والنصف مساءً، سيقا إلى مركز الشرطة بالقرب من مستوطنة ميفو دوتان. يقول محمود إن طبيباً سأله عن إصابته بأي حساسية وأمراض وأنهما تلقيا الماء ولكن من دون طعام. ثم أمضيا الليلة مربوطَين ومعصوبَي العيون على مقعد بلاستيكي. فاضطرا إلى الجلوس باستقامة ولم يُسمح لهما بالنوم. في كل مرة كانا يتحركان، كان جندي يركلهما.في الساعة الثانية فجراً، تم استجواب محمود من رجل يجيد اللغة العربية. فسأله: {لماذا كنت متواجداً في الشارع في الليلة الماضية؟}. أجاب: {كنت أتنزه مع صديقي}. يقول محمود إن الرجل ثار غضباً وهدد بضربه.تزعم منظمات حقوق الإنسان أن تحركات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية تعكس جزئياً استراتيجية ترهيب تهدف إلى تخويف الأولاد ومنعهم من المشاركة في أي احتجاجات مستقبلية. يأمل الجيش أيضاً الحصول على معلومات حول أفراد العائلة الذين ينشطون ضد الاحتلال.يحصل معظم ممارسات سوء المعاملة بحق القاصرين الفلسطينيين في مناطق مثل الخليل حيث يعيش مستوطنون إسرائيليون وفلسطينيون على مسافة قريبة. كذلك، يتم اعتقال أولاد يعيشون في قرى تقع على طول الجدار الفاصل لأن معظم الاحتجاجات ضد الاحتلال يحصل هناك.منذ عام 2011، بدأت منظمة إسرائيلية اسمها {بتسليم} تجذب الانتباه إلى {انتهاكات جدية} لحقوق القاصرين الفلسطينيين الذين اعتقلوا بتهمة رمي الحجارة. لكن أصدر الجيش تصريحاً مضاداً يعتبر أن {الواقع القاسي يتطلب رداً قاسياً}.مجرد طفلبعد بضع ساعات على استجوابه، جُلب محمود وصديقه حسين إلى سجن مجدو. يقول محمود: {كنت ضعيفاً بسبب الحرمان من النوم وشعرت بجوع شديد}. كان معصماه يؤلمانه وقد شعر بالقلق من خوف عائلته عليه. بما أن حسين كان قد بلغ 18 عاماً، وُضع في جناح مختلف. تقاسم محمود زنزانته مع تسعة فتيان: نجد فيها منطقة للطبخ ولكن من دون نافذة، وفتحة صغيرة في الباب، وألواح إسمنت للنوم. كان السجين الأصغر يبلغ 12 سنة. اضطر السجناء إلى تحضير الطعام بأنفسهم وكانوا يتلقون المقادير من الحرس: أرز ولبن. في اليوم الرابع، خرج محمود من الزنزانة ودخل إلى غرفة مختلفة حيث خضع للاستجواب مجدداً. لم يفصح الرجل عن اسمه ولم يكن يلبس أي بزة نظامية بحسب قول محمود، والأهم أنه شعر بالغضب. أراد أن يعرف تفاصيل عن عائلته وسأل محمود عن سبب رميه للحجارة.قال محمود: {لم أقذف أي حجارة}. تحدث الرجل عن وجود أدلة بالصور. لكن حين أراد محمود مشاهدة الصور، قال له الرجل إن الأمر غير ممكن. ثم صرخ الرجل أن صديقه حسين اعترف بأن محمود رمى الحجارة. دام الاستجواب ثلاث ساعات. في النهاية، وضع الرجل وثيقة عبرية على الطاولة. لم يتمكن محمود من قراءتها لكنه وقّعها. حتى هذا اليوم، لا يعلم ما تذكره تلك الوثيقة.يدعي المحامون الإسرائيليون الذين يمثّلون الأولاد في مناسبات متكررة أمام المحاكم العسكرية أن الأولاد مجبرون على الاعتراف. يوقّعون على الوثائق تحت تهديد العنف أو الابتزاز فقد يخسر والدهم مثلاً ترخيص عمله في إسرائيل.في الصيف الماضي، انتشر حول العالم فيديو يُظهِر اعتقال صبي في عمر الخامسة في الخليل. فيه، ظهر ستة جنود مسلحين وهم يحيطون بالطفل وديع مسودة الذي كان يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً برتقالية، ثم جرّوه وهو يبكي ويصرخ إلى مركبة الجيش. ما كان سبب اعتقاله؟ اتهم أحد المستوطنين ذلك الطفل الذي يبلغ خمسة أعوام برمي حجر على سيارته.سرعان ما وبّخ أحد الضباط الجنود مدعياً أن هذا الحدث لا يليق بصورة إسرائيل الوطنية. يتحدث عن ضرورة الحرص على عدم تصويرهم في أوضاع مماثلة مستقبلاً. منذ بضعة أسابيع، صُور اعتقال طفل آخر في السابعة من عمره. فظهر حاملاً حقيبة مدرسة عليها رسم الرجل العنكبوت وراح ثلاثة جنود يجرونه وهو يصرخ. في الخلفية، بدأت امرأة بالصراخ: {ماذا تفعل؟ إنه مجرد طفل}.{أنا خائف طبعاً}وقف والد محمود، باسم غانم، على عتبة منزل حجري لونه فاتح. يقول إن ابنه محمود تغير وبات يمضي وقتاً طويلاً وحده. حين تجتمع العائلة على العشاء، يأخذ محمود طبقه ويعود إلى المطبخ. يمضي معظم لياليه في منزل جديه. يقول والده إنه يختبئ. حتى إنه لا يحب أن يتواجد وسط أشقائه.أعدّت والدته سهى بعض الشاي وقالت إن محمود لم يعد يعانقها كما كان يفعل سابقاً. حين ينام في المنزل، يمكن أن تسمعه وهو يصرخ في نومه. لم يحكم أحد على محمود يوماً بل إنه عاد إلى منزله بعد أربعة أيام وظهرت على جسمه كدمات بسبب الأغلال والضرب. لكنه يقفز حين تمرّ سيارة في الخارج أو يسمع محركاً مدوياً.انسحب هذا الفتى البالغ من العمر 14 سنة إلى غرفته وكان يحمل بطانية عليها رسوم ميكي ماوس وكانت الجدران الزرقاء الفاتحة مليئة بملصقات ديزني. يقول في غرفته الهادئة: {أنا خائف طبعاً}.مظاهر مختلفة من حكم القانونتقول محامية حقوق الإنسان غابي لاسكي، التي تكرمت على جهودها في هذا المجال، إن الأولاد الأبرياء يتعرضون للاعتقال بشكل متكرر بسبب ادعاءات خاطئة. يتولى مكتبها راهناً تمثيل خمسة فلسطينيين تحت السن القانوني بسبب وجودهم في الحجز العسكري. تحارب لاسكي لأجل حقوق الأولاد الفلسطينيين كي لا يتم التعامل معهم وكأنهم تهديدات أمنية بل مجرد أولاد. تريد أن يوقف الجيش جرّهم من أسرّته خلال حملات المداهمة الليلية، معتبرةً أن القاصرين يجب استدعاؤهم خطياً. كذلك، تطالب لاسكي بالسماح لأحد الوالدين بمرافقتهم وبعدم استجوابهم وحدهم. وتريد تسجيل جميع الاستجوابات وترجمة الوثائق إلى اللغة العربية.لكن لا يحصل أي من ذلك حتى الآن. في الضفة الغربية، ثمة نظامان مختلفان من القوانين للإسرائيليين والفلسطينيين: القانون المدني الإسرائيلي للفئة الأولى والقانون العسكري للثانية. يمكن اعتقال ولد فلسطيني عمره 12 سنة واستجوابه من دون أهله أو من دون محامي واحتجازه لمدة مضاعفة من تلك التي يمضيها ولد إسرائيلي في العمر نفسه. يُعتبر الفلسطينيون مسؤولين جنائياً في عمر الثانية عشرة، لكن لا يصبح الإسرائيليون كذلك قبل عمر الرابعة عشرة.ينتمي محمود إلى الجيل الثاني من الفلسطينيين الذين تربّوا في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وسط عالم تحكمه الحواجز وعمليات التفتيش وحظر التجول ومداهمة المنازل ليلاً. في الضفة الغربية وحدها، قُتل 11 طفلاً أو مراهقاً فلسطينياً هذه السنة (10 على يد الجنود وواحد على يد المستوطنين).يتحدث علماء النفس عن الصدمات التي تمتد على مر أجيال، معتبرين أن استمرار الصراع والعنف له أثر خطير على نفسية الأولاد. يقول ساني غوردون بار، عالم نفس يطلق حملات لدعم الأولاد الموجودين في عهدة الجيش: {حتى أصغر الأولاد يلاحظون أن أهاليهم لا يستطيعون حمايتهم لأن لا كلمة لهم في هذا المجال، بينما تكون السلطة بيد جندي عمره 18 سنة}.يقول أفيشاي ستولاي، وهو رجل عمره 30 سنة يعمل كخبير في الوثائق التاريخية في منظمة {كسر الصمت} التي أسسها جنود سابقون: {يحارب الأولاد ضد الأولاد هنا ويبدو الأكبر سناً أكثر وحشية لأنهم أكثر قوة}. يصف وجهة نظر جنود كثيرين قائلاً: {كل فلسطيني هو عدو، ويجب أن تدافع عن أرضك}. هو نفسه ركل فلسطينيين مربوطين في ظهرهم وسحب عائلات من أسرّتها في وسط الليل وفتّش منازلهم. احتجز ورفاقه الأهالي وأولادهم في غرف منفصلة كي يتمكن الجنود حينها من مشاهدة مباراة كرة قدم في غرفة المعيشة.خلال السنة الماضية، جمعت منظمة {كسر الصمت} نحو ألف شهادة تصف عنف الجنود وسوء معاملتهم. زار ستولر شاباً عمره 23 عاماً فوصف له الأخير فترة خدمته على حاجز تفتيش: كان يحتجز الأولاد في أقفاص سلكية، طوال ساعات أحياناً، حتى في الجو البارد والممطر، لأنهم يثيرون غضبه: {هذه التجارب شائعة. هذا هو الواقع في الجيش}.يصف جنود آخرون كيف ربطوا فلسطينيين عمرهم 12 سنة بأسلاك وطرحوهم أرضاً وعصبوا عيونهم وداسوا على خصيتَيهم. ووصفوا كيف رموا قنابل يدوية صادمة وغازاً مسيلاً للدموع على مساجد القرية لأنهم شعروا بالملل.لا يتحدث ملازم في الجيش الإسرائيلي (لا يمكن الكشف عن اسمه لأسباب أمنية) مطلقاً عن {أولاد} بل يصفهم بمصطلحات مثل {قاصرين} أو {مشتبه بهم} أو {معتقلين}. مكتبه في قاعدة عوفر العسكرية بالقرب من رام الله أشبه بمخيم ميداني حيث التدابير الأمنية مشددة. لكنه يتذمر من الأمم المتحدة.تقرير {يونيسف} الذي يتهم جيشه بإساءة معاملة الأولاد بشكل منهجي {خاطئ بالكامل} كما يقول. مثل التقارير التي تصدرها منظمات {بتسليم} أو {كسر الصمت}، يصف التقرير {يهوداً يكرهون أنفسهم ويبدون أسوأ من المعادين للسامية}. يقول إن رمي الحجارة جريمة خطيرة وتحتاج إلى عقاب مناسب.