يبدأ الكاتب قويا مبشرا ومذهلا في العمل الأول له وهو شاب قليل الخبرة وقليل القراءة وقليل التجارب الحياتية أيضا، ثم يبدأ مع تقدم العمر واكتساب المعرفة ينحدر بشكل مخيف الى ما يشبه التفاهة وهو من المفترض أن يكون مصقول الموهبة ذا خبرة أكبر وقراءة أكثر اتساعا.

Ad

كانت تلك ملاحظة ناقشتها كثيرا مع بعض الزملاء ونحن نستعيد أسباب هذه الظاهرة غير المنطقية دون أن نصل الى رؤية واضحة أو سبب مقبول يمكن أن نعتمده في تحليلها. فمنطقية الأشياء تقول إن الكاتب ينمو بشكل تصاعدي أثناء عملية التأليف الابداعي مستفيدا من موهبته أولا ومن تجاربه القرائية والحياتية ثانيا.

والتفسير الوحيد لحالة التردي بعد العمل الأول هو نفاد مخزون موهبة وقراءة سابقة وعدم الالتزام بقراءات تملأ هذا المخزون ثانية، اضافة الى حالة الغرور وهي خصلة بشرية لا يتخلص منها الا القلة. لا يهمني الآن هؤلاء أصحاب العمل الواحد، وما يهمنا هنا هو شاعر على نقيضهم تماما.

دخيل الخليفة يسير شعريا بمنطق الأشياء، وكما توحي طبيعتها وكما يرسمها قانونها الطبيعي. شاعر يتصاعد فنيا ويرتقي لغة ويتميز موضوعا انسانيا، يرفض تكبيل نفسه في اطار قضية أو حالة ما أو حتى شجن ما.

منذ بداياته الأولى عام 1993 في "عيون على بوابة المنفى" وحتى عمله قبل الأخير "يد مقطوعة تطرق الباب"، وهو يرسم خطه البياني شعرا بوضوح نحو الأعلى مستفيدا من موهبته أولا ومن تجاربه الحياتية والقرائية وبصيرته المعرفية لادراك ما يريد والسير بثبات نحو ما يريد.

"صاعدا الى أسفل البئر"، هي المجموعة الصادرة حديثا لدخيل الخليفة، وهي التجربة الخامسة له شعريا ولكنها الأكثر تماسكا وفنية تنبئ أن الشاعر يسير نحو مشروعه الشعري بثبات دون أن يسجل نفسه شاعرا تحت وطأة قضية ما حتى وان كانت قضية عادلة.

يفك قيوده بذكاء مخلصا للانسان في الشعر، سواء وقع هذا الانسان تحت وطأة قضية الشاعر أو قضيته الفردية. وهو يدرك بوعي أن المباشرة في طرح قضيته ربما تحيي قضيته لكنها بالتأكيد تقتل الشعرية في شعره. وهو هنا يخرج من اطاره الضيق الى فضاء أرحب ومن التفسير المباشر الى التأويل الممكن: يائسا من كل هبات النوافذ الضيقة / كان يظن أنه سيموت غدا!/ربما مات أمس !/وما ترونه ظل قصيدة ارتدت ثيابه / لتحرس أوتاركم.

ما يميز انسان دخيل الخليفة الشعري هو الفناء الخاص به، هو ليس انسانا سويا يسير على قدمين برأس متزن وحواس مكتملة، هو ليس الطبيعي في الحياة الطبيعية، ولكنه المتشظي دائما، هذا الشبحي الذي لم يتحقق من ذاته ولم تكتمل آدميته في غياب واقع لا آدمي. لا أصدقاء له، لا وجه يلتقي به سواه ولا يتحقق له حتى موت يليق به. تتكرر ثيمة الجروتسك ايحاء بتشظي انسان الشاعر والاعتماد على تفاصيله الفاعلة بدلا من كليته العدمية.

تطايروا بلا أجنحة ولا سيقان/ ينظرون الى الأرض ويتسلقون الهواء/ يضحكون/ لأن كثيرين ظلوا يتحلقون حول الدم بسيقان/ وبلا رؤوس.

دخيل الخليفة في ما مضى وما سيأتي شاعر يستحق المتابعة.