من يُقم في المنفى طويلاً يُضِع زمنين، ويختلق زمناً بديلاً. ولن يستطيعَ، حتى يومَه الأخير، معرفةَ هذا الزمن البديل، إذا ما كان حقيقةً أو وهماً. إنه يُضيع زمنَه الأول في بلده الأول، الذي ولد فيه ونشأ. سيشعر بذلك إذا ما أتيحت له فرصةُ العودة، أو الزيارة ذات يوم. كلُّ بيت يدخله سيذكّره ببيتٍ زال، وكلُّ إنسانٍ يلتقيه سيعيدُ إليه ذكرى صديقٍ غاب، وكلُّ نخلة تُطلُّ عليه ستبعث على جبينه نسمةً من مراوح النخل الذي احترق، وكلُّ شجرة تعزز استحالةَ شجرة «التوت»، وكلُّ تدفقِ الأمواج لن يحرّكَ الزورقَ الخشبيَّ في رأسه. كل ما يعنيه من مشهد الزمن المضطربِ بالأحياء والأشياء لا يعدو ذلك المشهد الساكن، الذي يشفُّ وراءه، والذي يبدو أشبهَ بلوحةِ «حياة صامتة»، تتألق فيها الألوان، ولا تشحَب.

Ad

 والزمن الثاني الذي يُضيعه هو زمنُ منفاه الذي يُقيم فيه. يُضيعُه كلَّ لحظة من لحظاته. لأنه، منذُ التقاه وحاول اقتحامه، أحسّه يُجافيه، ويَضيق عنه، ولا يتّسع له. فكلُّ إنسانٍ يصحبُه، وشارعٍ يطأه، وبيتٍ يُقيم فيه، وموجةٍ تنحدر دونه، وشجرةٍ تُظلّه، ليس إلا إيقاعاً مجرّداً كإيقاع الموسيقى، يستحضر اللحن الغائب، القديم. زمنُ المنفى تجريدٌ بالغُ التأثير، له ما للحلم من ملمسٍ ناعمٍ، يقاربُ ملمسَ الوهم، إنْ لمْ يكنْ الوهمَ عينَه. لا ينطوي على لحظاتٍ ودقائقَ، شأن اللحظاتِ والدقائق التي ألِفناها في الزمن، بل على كُتلٍ زمنية تعبر كياننا وذاكرتنا كما تعبر النيازك، ثقيلةً ولكن دون صوت وحركةٍ ملموسين. نشاهدُ فيه السنةَ كما يُشاهَدُ اليومُ، والعقدَ كما يُشاهَدُ الشهرُ، والعمرَ كلّه كما يُشاهَدُ فيلمٌ عارض على الشاشة.

 زمنُ المنفى لا مفاصلَ فيه واضحة، فهو لا يُستعاد. الذاكرةُ تأبى أن تحتفظَ به، لأن عناصرَ المشهد فيه رخوةٌ: فالزمانُ، والمكانُ، والشخوصُ مبعثرةٌ لا تنتسب لبعض. والذاكرةُ إنما تحتفظ بمشهدِ العناصرِ المتماسكة. ولذا تستجيب بيسر حين تستدير إلى زمنك الأول: ماءُ النهر يضطربُ بالزوارق على مقربة، وأنت إلى جوار عِذْق النخلةِ السامق، تمس استدارة التمرة الناضجة بحذر. وبعيداً على الأرض تحتك، هتافُ صحبك المنتظرين. زمن المنفى لا يحتمل استدارة الذاكرة:

واليومَ أحدّقُ في نهر التَيْمس،

وعبرَ ضبابِ الزمن الرائقِ ودخانِ الزمنِ المتعجّلْ،

لا أعثرُ بين مراكبه المتعاليةِ على مُتّسعٍ ليْ!

ولذا طمّنتُ النفسَ على هذا المجرى المتطفّلْ

لي، ولزورقِ حلُمي الخشبيْ.

(من قصيدة «مدينة في مرآة»)

ولكن ما حكاية هذا الزمن البديل الذي يختلقه المنفي، بعد ضياع زمنه الأول وزمن المنفى؟ هل هو أشبه بـ «نيرفانا» الباحث عن الخلاص من وطأة الزمن؟ إنه زمنٌ داخليٌّ بالتأكيد، عموديٌّ إن صحَّ التعبير. زمنٌ لا ساعةَ فيه ولا تقويم بالأيام والأشهر. إنه ليس الدهرَ المطلقَ، أو الأبديَّ الذي يتحدث عنه الفلاسفة، بل هو الزمنُ الشخصي الذي يصطنعه المنفي لنفسه. زمن عالمه الداخلي الذي يرشح من مُنخُل غياب زمنين، أرحمهما به كان إيهاميّاً:

فأعدتُ إلى رأسي الزمنَ الأولْ

زمنٌ لا يُحسَب باللحظاتِ ولكن بالموج المرسلْ

للنهر. أُعري النفس وألقيها بين الأمواجِ، أقولُ لها:

يا نفسُ تنائيْ عن حرمانك، فتجيبْ:

يا هذا، إن البيتَ مضيقٌ يفصل هاويتينْ،

والعابرَ بحراً بحثاً عن ضفةٍ أخرى

قد يفقد ضفتينْ!

 (من قصيدة «الربع الخالي»)