ما قل ودل: نجح المصريون فيما أخفقت فيه أوروبا مجتمعة

نشر في 21-09-2014
آخر تحديث 21-09-2014 | 00:01
 المستشار شفيق إمام تغطية الاكتتاب في القناة الجديدة

ملحمة وطنية كشف عنها الإقبال الجارف على شهادات قناة السويس الجديدة، حين تدفقت الملايين من أبناء الشعب المصري من كل الطبقات والفئات والطوائف للمساهمة في هذا المشروع القومي المصري العظيم، فقد وحد هذا المشروع كل أطياف هذا الشعب وألوانه التي التفت حول قائدها الرئيس عبدالفتاح السيسي، ملبية نداءه الوطني بحفر قناة جديدة توازي القناة الحالية، وبطول 35 كليو متراً، حيث بلغت حصيلة شراء شهادات الاستثمار في القناة الجديدة 64 مليار جنيه، في بضعة أيام بما يزيد على المبلغ المقدر للمشروع، والذي أعلن البنك المركزي طرح شهادات الاستثمار فيه وهو ستين مليار جنيه.

أوروبا تفشل في تغطية الاكتتاب

وقد أعادت هذه الملحمة الوطنية إلى الأذهان طرح شركة قناة السويس التي منحها سعيد باشا والي مصر امتياز حفر القناة الأولى، أسهم الشركة التي كان يبلغ عددها 400 ألف سهم، في أول شهر نوفمبر سنة 1860 وأقفل في 30 من الشهر ذاته، دون أن تستطيع دول أوروبا مجتمعة تغطية الاكتتاب في هذه الأسهم، ذلك أنه لم يكن قد بيع منها في كل أوروبا عند قفل باب الاكتتاب سوى 222.368 سهماً.

وهو موقف غريب من أوروبا، فقد كان الهدف من حفر قناة السويس هدفا أوروبياً خالصاً، وهو رغبة الدول الأوروبية في مزيد من المستعمرات لتسويق منتجاتها بعد الثورة الصناعية في أوروبا، كما كانت أوروبا في حاجة إلى طريق قصير وسريع يربطها بالهند والصين وغيرهما، يكون بديلا لطريق رأس الرجاء الصالح للحصول على المواد الخام اللازمة لقيام صناعتها، كما نشأت في أعقاب الثورة الصناعية شركات ومؤسسات رأسمالية عملاقة أسهمت في تمويل التجارة الخارجية الأوروبية.

أي أن النزعة الاستعمارية الأوروبية، التي استهدفت السيطرة السياسية والاقتصادية على أنحاء شتى من العالم وبخاصة في إفريقيا وآسيا وأستراليا، كانت هي محرك أوروبا بوجه عام وفرنسا بوجه خاص إلى شق قناة السويس. الأمر الذي لم أجد له مبرراً فيما قرأت عن هذه الحقبة من الزمن في تقاعس أوروبا في الاكتتاب في باقي أسهم الشركة، وهي تعلم أن شركة قناة السويس لن يتم تأسيسها وفقا للقانون الفرنسي إلا بعد الاكتتاب في كل أسهمها.

سعيد باشا يغطي الاكتتاب

وكان سعيد باشا والي مصر الذي منح الشركة امتياز حفر القناة قد ساهم في الأصل بـ64000 سهم، ولما علم أن شركة قناة السويس لن تؤسس- وفقا للقانون الفرنسي- باعتبارها شركة فرنسية، إلا بالاكتتاب في كل أسهم الشركة المصدرة اضطر إلى شراء بقية الأسهم التي لم يتم الاكتتاب فيها والتي بلغ عددها 177.743 سهما.

ولم تكن لديه القدرة المالية على سداد ثمنها، الأمر الذي اضطر معه إلى توقيع اتفاق مع الشركة، يدفع بمقتضاه أعباءه كمساهم بسندات على الخزانة المصرية، وقد بلغ ما كان مدينا به للشركة 15 مليون فرنك فرنسي، إلا أن الدين ارتفع إلى 54 مليون فرنك في عام 1962 بسبب ارتفاع قيمة السهم من 100 فرنك إلى 300 فرنك، وذلك قبل استحقاق الدفعة الأولى من هذا الدين في عام 1963. ويحار المرء في فهم وتفسير موقف ديليسبس من هذا الأمر كله، هل هو الذي أقنع صديقه سعيد باشا بشراء باقي الأسهم؟ ولماذا لم يلجأ إلى فرنسا، وإلى الإمبراطور نابليون الثالث لتغطية الأسهم التي لم يتم الاكتتاب فيها، وهو يعلم أن مصر لم تكن لديها القدرة المالية على شراء باقي الأسهم التي لم يتم الاكتتاب فيها؟ وهل كان ارتفاع قيمة السهم أمرا مخططا له؟ أعتقد أنها كانت مؤامرة على مصر، استكملت فصولها في عهد إسماعيل الذي تولى الحكم بعد وفاة سعيد باشا، عندما باع هذه الأسهم وباع حصة مصر في أرباح الشركة وأغرق مصر في الديون.

إسماعيل ومشروعه الحضاري والإنساني والاجتماعي!

إلا أن ما استوقفني في هذا السياق مقال للكاتب الكبير فاروق جويدة في صحيفة الأهرام يوم 8 أغسطس الماضي تحت عنوان "إهدار الحقيقة وامتهان التاريخ"، عندما كتب في مقاله يقول إنه لا يوجد شعب أساء إلى تاريخه وشوه رموزه كما فعل المصريون، عندما اعتبر فترة حكم الخديوي إسماعيل جزءاً من أجزاء عزيزة من تاريخ هذا الشعب... إذ اعتبره في مقاله رمزاً كبيراً من رموز مصر، وأنه كان صاحب مشروع حضاري وإنساني واجتماعي كبير، وأن تاريخه كان يعتبر ثورة حضارية في مجتمع متخلف، وأنه كان حاكما صاحب مشروع حضاري أنجز فيه وأخفق في البعض الآخر ومثل كل التجارب الإنسانية، كان الخطأ والصواب ابتداء بتغيير حياة المصريين بالأوبرا والبرلمان وقناة السويس، وانتهاء بقصة الديون التي بقيت عارا يطاردنا في كل الأزمنة.

والذي استوقفني في هذا كله أن الكاتب الكبير، الذي أحمل له كل التقدير والإعزاز والإكبار لكل ما يكتبه من مقالات وأشعار، قد ساوى بين تاريخ الخديوي إسماعيل وتاريخ جمال عبدالناصر، باعتبار كليهما صاحب مشروع حضاري وإنساني واجتماعي.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

back to top