أدرك الآن مواجع القردة الثلاثة الظريفة، تجلس مقرفصة ملتمّة على أعضائها، تعلن مانافستو الحكمة المعتقة: لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم.

Ad

القردة الثلاثة، تلك الصغيرة الظريفة لا تني تتسلقني كل ساعة، وتجلس على كتفي وفي حِجري وفوق رأسي، متضامنة مع صمتي وأنفاسي المتوحدة، متقافزة في ظلال الوحشة المتلكئة هناك وهنا.  

يهبط المساء فتتدثر معي فوق الأريكة، ويأتي الليل فتعود لتجلس القرفصاء فوق رأس السرير لتأخذني إلى مملكة الصمت، ومعاً نستأنف اللعبة كل صباح: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم.

وأنا منذ صمْتُ عن الكلام ما عادت عيني ترى شيئاً حين تخطر الأشباح، ولا أذني تسمع ما اعتادت أن تسمع مما يسيح من فضلات الكلام، الكلام السمج المدبب الميّت كسمكة نافقة. وحده وجع القرفصة وانكماش الأعضاء يحيلني إلى مكعب من الخشب يجلس في علبة، والعلبة ملقاة في الفراغ، والفراغ يحيك خيوط الصوف في رأسي، وكرات الصوف تتكوّم وتلتفّ متهدّلة فوق قدميّ.

وأنا وقردتي الثلاثة اللطيفة نجلس القرفصاء لنعبث في الخيوط المتشابكة الملونة، نلفها حول أعناقنا ومعاصمنا، نصنع منها عالماً هلامياً بلا هيئة. لا ندري أين يبدأ رأس الخيط وأين ينتهي، ولا نملك سنارتين للحياكة لنبدأ غزل القمصان والجوارب لتأتي على قدر القامة والطول.

 أنا وقردتي الثلاثة البريئة حدّ اليتم، المسالمة حدّ الفاقة، لا نملك إلا أن نغزل الصمت، ونصوم عن الكلام، ونتوارى حين يسقط الضوء أو تأتي العتمة لئلا نرى الأشباح الباردة تخطر في فسحة المكان.

 خيط الصوف، اختراعي الأجمل، ممتد كالجسر وطويل بلا نهاية، ممتد كطريق، كمعبَر، كأرجوحة تتدلى في دغل وتدعو للتأرجح في الضباب. الدرب المنطلقة في الضباب، بلا لافتة أو إشارة، تغري كقصيدة غير مكتملة، كنص لم يتخلق بعد، بينما قلبه آخذ بالنبض كقلب جنين في طور العَلَقة فالمضغة.

 مازالت تستهويني الدروب المنطلقة إلى المجهول، هكذا تبدو لذائقتي الفنية شهية ومراوغة، حين لا تؤدي إلا إلى المزيد من التطلّع والمزيد من المشي على قدمين من هواء، ثم الجري في عين الشمس.  وحيداً جداً ستكون وأنت تمشي أو تجري، وأنت تقفز فوق مدرجات الضباب، وحيداً كإله أو كذرّة أو كحصاة، وحيداً إلا من الطرقات / (الطرْآت) المجدولة بنثارات (فيروز)، وقد أحالتها لوثة الفن والشعور المكتنز إلى كرستالات من الفضاء والضياع، ومن البكاء أيضاً.

في تلك الحافلة التي ظلت تقطع المسافات، تعبر من طريق إلى طريق، ومن مدينة إلى مدينة، ومن فندق إلى فندق، كان الوقت آسراً في امتداده وفي انسلاله من عقارب الساعة. وكان آسراً في اكتنازه باللحظة، وفي تبرعمه البضّ في الصباح الباكر، وانفلاته بتؤدة على مشارف العصر، ثم جثومه – حين يأتي المساء - كطائر منتفخ الريش. الطريق والحافلة كانا يدوزنان الوقت، وكان الوقت ينسلّ مع الهواء من النافذة ويتركنا وراءه.     

ثمة آصرة متأصلة بين "الوقت" و"الطرقات"... الطرقات الملتوية كأمعاء متوجّعة، فكلاهما يؤازر الآخر بخبث وتآمر لذيذين، وبالتفاف متأنق كالتفاف حيتين في وضع عاشق ومعشوق. دائماً هناك الوقت يتدحرج في الطرقات أمامك، مدججاً بالشوك كقنفذ، أو منداحاً كتنورة راقص صوفي، لا تهمّ الهيئة وإنما الحضور، وقد لا يهمّ الحضور أيضاً – في حالة الغفلات والغفوات-، وإنما كيفية الغزْل والنسج التي تأخذ هيئاتها السريالية في ذاكرتك المجبولة من الغبار.     

خيط الصوف، اختراعي الأجمل، ممتد كالجسر بيني وهذه الشاشة الأليفة، ينسلّ بتؤدة مغالباً العُقَد الصوفية المزعجة، فألفّه بلا مبالاة على أصابعي، بينما قردتي الثلاثة الظريفة تجلس أمامي كالقطط المنزلية الأليفة، ومعاً نصيخ بلا جلبة إلى سريان الوقت، نحيك منه قمصاناً وجوارب من الوهم، ونبني حكايات من غزْل العنكبوت.

حين اختُرعَتْ الكتابة، اُخترِعَ الصمت، واختُرعَتْ العزلة. ومن العزلة المستعلية على الشرّ والإثم جاءت حكمة القردة الثلاثة: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم. أنا أكتبُ فقط.